لم يمر كثيرا على انتهاء حرب أكتوبر 1973 ، حتى استيقظت مصر يوم الخميس 18 إبريل 1974 على محاولة أقتحام الكلية الفنية العسكرية ، و عرف التنظيم الذي قام بهذه المحاولة بأسم تنظيم صالح سرية ، و هو فلسطيني من حيفا ، درس في العراق ، و أنشأ تنظيما سمي وقتها بأسم “جبهة التحرير الفلسطينية” في بداية الخمسينات ، و أستمر صالح بالعراق إلى أن قامت ثورة 58 ، و أحس صالح أن الثوار العراقيين الجدد سيكونوا دعما كبيرا له ، إلا أن خلافا وقع بين صالح سرية و قيادة الثورة في تلك الفترة ، فتحول صالح للعمل السري ، و بدأ في تنفيذ عمليات  ضـد اليهود العراقيين ، استغل صالح سرية الخلاف الذي وقع بين عبد الكريم قاسم و عبد السلام عارف و تقرب من الأخير ، إلا أن هذا التقارب لم يستمر طويلا فتم أعتقاله عام 1965 ، لو يظهر صالح سرية على سطح الأحداث إلا عام 1968 عندما حضر أجتماع المجلس الوطني الفلسطيني بالقاهرة ، ولكن لم ينسى صالح سرية الفترة التي قضاها بالعراق و أتهم بمحاولة أغتيال الرئيس العراقي أحمد حسن البكر في 1969 ، و أضطر للهروب إلى الأردن لينضم إلى كتائب حزب التحرير ذو المرجعية الإسلامية ، لم يستمر ايضا صالح سرية طويلا مع حزب التحرير  ، و التحق بالعمل في جامعة الدول العربية عام 1972 بالقاهرة ، و أنضم إلى البقية الباقية لتنظيم الأخوان الموجودين في مصر في تلك الفترة ، و استطاع الأتصال بمرشد الأخوان في تلك الفترة السيد حسن الهضيبي الذي عرفه بثلاثة من الشباب المتحمس هم طلال الأنصارى ، اسماعيل طنطاوى ، يحيى هاشم ، و أستطاعوا الثلاثة أن يجندوا عددا من الشباب المتحمس و صل عددهم إلى 300 شاب و يقول الدكتور أيمن الظواهري في كتابه فرسان تحت راية النبى : ” ان صالح سرية كان محدثاً جذاباً ومثقفاً على درجة عالية من الاطلاع والمعرفة ، كان حاصلاً على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة عين شمس ، كما كان متضلعاً في عدد من العلوم الشرعية ، حاولت لقاءه مرة واحدة أثناء احد المعسكرات الاسلامية في كلية الطب حين دعاه أحد المشاركين في المعسكر الى القاء كلمة في الشباب ، و بمجرد استماعي لكلمة هذا الزائر أدركت ان لكلامه وقعاً آخر ، وانه يحمل معاني اوسع في وجوب نصرة الاسلام ، و قررت ان أسعى للقاء هذا الزائر ، و لكن كل محاولاتي للقائه لم تفلح”

و نرى من كلمات الظواهري أن صالح سرية كان ذو شخصية كرزمية ساعدته على استقطاب أعداد متزايدة من الشباب المتحمس لفكرة الدولة الإسلامية ، حتى وصل أن جماعته أنتشرت في كل من بورسيعد ، الأسكندرية ، قنا ، بالأضافة إلى القاهرة ، و قرر صالح بعد ضغط من الشباب المنضم لجماعته أن يقوموا بمهاجمة مجلس الشعب و مبى اللجنة المركزية للأتحاد الأشتراكي ، إلا أنه تراجع عن تلك الخطة و استبدلها بالهجوم على الكلية الفنية العسكرية ، لم تننجح العملية و قبض على صالح سرية و رفاقه و قدموا للمحاكمة و جاءت الأحكام ما بين الأعدام و الأشغال الشاقة المؤبدة و نفـذ حكم الإعدام على صالح سرية عام 1975.

و كشف السيد مختار نوح المحامي الأسلامي و الذي تولى الدفاع عن مجموعة صالح سرية عن بعض الأوراق الخاصة بتحقيقات تلك القضية و منها أقوال صالح سرية عن العملية قائلا :

” استكمالاً لخطوات تنفيذ المؤامرة اللي تحدثت عنها فقد كان المقرر خروجنا من مبنى الكلية الفنية العسكرية صباح الخميس 18/4/74 لنستقل سيارات أوتوبيس الكلية المخصصة لنقل الخبراء الأجانب العاملين بها بقيادة بعض أعضاء التنظيم الذين يجيدون القيادة و نتوجه بالسيارات إلى قاعة اجتماع اللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكي وتقف بنا السيارات أمام الباب الخارجي الذي يفتح على كورنيش النيل ثم ننزل منها سراعاً ويقول بعض أعضاء التنظيم للحراس الموجودين على الباب بأن يدعو لهم بأن توجد متفجرات بالقاعة مكان الاجتماع و أنهم قدموا لإزالة هذه المتفجرات و في أثناء هذا الكلام يكون الباقون قد اندفعوا بسرعة إلى القاعة واعتماداً منا على شيئين أولهما ذهول المفاجأة و ثانيهما خشية الحراس من إطلاق النار علينا في وجود الرئيس هذين الأمرين سوف نتمكن عن طريقهما من اقتحام القاعة دون تصدي أحد لنا , وما دام دخلنا القاعة فسهل علينا السيطرة عليها , وكان الترتيب الذي خططت أنا شخصياً له أن بمجرد دخولنا القاعة تسارع مجموعتين منا بقيادتنا شخصياً إلى منصة رئيس الجمهورية و نعتقله على الفور وفي هذا التوقيت فيه مجموعتين أخرين سوف تتجه إحداهما إلى يمين القاعة والأخرى إلى يسارها لتأميني على المنصة والسيطرة على القاعة ومجموعة على باب القاعة وبقية المجموعات على الأبواب الخارجية ثم أتقدم إلى الرئيس بمطلب التنازل عن الرئاسة لأكراهه بالقوة المسلحة على التخلي عن رئاسة الجمهورية و أن يذيع بنفسه على الشعب بياناً بالتخلي عن الرئاسة فإن رفض أمرنا وزير الإعلام أو غيره من المختصين في الإذاعة تحت ضغط القوة المسلحة بإعلان وقوع ثورة مسلحة واستولت على الحكم في البلد وسيطرت على الموقف واعتقلت كل المسؤولين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية وكنت أعدتت هذا البيان فعلاً ومزقته في الصباح الباكر من يوم الخميس 18/4/1974 بعد أن فشلت عملية الاستيلاء على الفنية العسكرية و ألقيت بالورق الممزق بعد أن قطعته قطعاً صغيرة في شارع الحسين عندنا في الدقي و لا زلت أذكر نص ذلك البيان وأنا على استعداد لكتابته الآن .

ملحوظة : وسلّمناه فرخاً من الورق وقلم حبر ومكناه من ما طلب تدوينه فكتب أمامنا البيان الآتي نصه حرفياً :

“ما أتذكره من البيان الذي أعددته للثورة

بسم الله الرحمن الرحيم

قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتزل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير

أيها الشعب الحبيب – أيتها الأمة المجاهدة الصابرة لقد نجحنا و الحمد لله صباح اليوم في السيطرة على الحكم و اعتقال جميع المسئولين عن النظام السابق و بدأ عهد جديد ، و نحن لمن قليل الوعود لكم لكننا نعلم أن النظام الجديد سيقوم على المبادئ التالية :

1- ستقوم مبادئ الدولة على أسس جديدة لا لبس فيها و لا تناقض .

2- سوف لا تكون الثورة مقتصرة على الجوانب السياسية و إنما ستشمل جميع نواحي الحياة الاقتصادية و الثقافية و التعليمية و الوظيفية و الاجتماعية و غيرها.

3- سوف تهتم الدولة اهتماماً حقيقياً بالإيمان و الأخلاق و الفضيلة

4- سوف تعتزم الدولة في كل سياستها مصلحة الأمة أولاً ثم الاتفاقات

5- ستعمل الدولة جاهدة على تحرير كل الأجزاء السليبة من وطننا و على مساعدة المحرومين و المظلومين في كل مكان وسنقاوم الاستعمار بجميع أشكاله في العالم

6-ستعمل الدولة جاهدة لقيام الوحدة بكل الطرق دون الاكتفاء بالادعاءات اللفظية

7- ستقوم الدولة بكل جهدها برفع التنمية من أجل رفع مستوى السكان

8- سوف نطبق الحرية للمجتمع ليقول كل ما يريد و نعد كل أجهزة الدولة بعيداً عن الكذب و الافتراء و البهتان

9- سنعيد تقييم كل المبادئ و الأشخاص و الوظائف على أسس جديدة

10- سوف تحيي الدولة مبادئ العدل المشهورة في تراثنا

والله الموفق

رئيس الجمهورية : د/صالح سريه

25ربيع الأول 1394ه

18 ابريل 1974″

من كل هذا نجـد ان التخطيط الذي حاول صالح سرية بالرغم من خبرته السابقة في العمل العسكري إلا أنه يحتوي على قدر كبير من السذاجة لا أعرف هل هذا فقط هو التخطيط الذي وضعه صالح أم أن هناك أوراق أخرى لم تكشف بعـد ، ولكن تنفيذ الهجوم على مبنى الكلية الفنية العسكرية لم يكن مخطط بشكل جيد فالتسليح الأساسي للافراد المهاجمين لمبنى الكلية كان عبارة عن خناجر و سيوف و بعض العصي و طبنجة محلية الصنع ، و بندقية خرطوش ، ربما أعتمد صالح أن حراسة الكلية بما أنها تعتمد على الطلبة أنفسهم فسيكون من السهل السيطرة عليهم و الاستيلاء على مخازن السلاح بها ليتحرك بعدها إلى مبنى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ليستولى على الحكم و يعلن عن الدولة الجديدة ، ناسيا أن هناك قوات مسلحة و شرطة لن تقف مكتوفة الأيدي حتى , لو قتل رئيس الجمهورية ، هذا فضلا عن عدم وجود تأييد شعبي له يمكن الإعتماد عليه في حالة تدخل الجيش.

أما عن المنهج الفكري لصالح سرية فهو ينتهج نفس المنهج الفكري لحزب التحرير الإسلامي فيظهر ذلك في تعريف الحزب لنفسه :

” إن قيام حزب التحرير كان استجابة لقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} . بغية إنهاض الأمة الإسلامية من الانحدار الشديد، الذي وصلت إليه وتحريرها من أفكار الكفر وأنظمته وأحكامه، ومن سيطرة الدول الكافرة ونفوذها ، و بغية العمل لإعادة دولة الخلافة الإسلامية إلى الوجود، حتى يعود الحكم بما أنزل الله.”

و حزب التحرير يرى أن الديمقراطية شر لا يجب أتباعه فهي تتنافى مع الشريعة الإسلامية ، و لا يدعوا حزب التحرير للكفاح المسلح إلا بعـد تجهيز العدة لقتال الكفار ، و هم يتفقون في كثير من الأفكار مع التيارات السلفية الأخرى إلا في نقطة واحدة هي عدم الأصطدام في الوقت الراهن مع المجتمعات و الحكومات إلا بعد أن يشتد عود الدعوة ، بينما صالح سرية أنتهج منهج عكسي فهو كان يرى ضرورة فرض الدعوة بالقوة عن طريق الأنقلابات العسكرية متاثرا بما كان معتادا في تلك الفترة منذ الخمسينات حتى أوائل السبعينات حيث كانت الإنقلابات العسكرية شىء معتاد و متفق عليه.

في النهاية أنتهت جماعة صالح سرية بعد إعدامه و لم يظهر له أتباع على نفس القوة و إن بدأت تظهر في السنوات الأخيرة ملامح حزب التحرير في مصر بشكل قوي في الشارع السياسي و سيكون لنا معه وقفة أخرى.

اقرأ الجزء الأول من هنا.