خلال الخمسة و العشرين عاما الأخيرة شهدت مصر تطرفا دينيا بدأ عنيفا قاتلا دمويا ، ففترة الثمانينات شهدت طوفان من العمليات الدموية الإستشهادية لنصرة الإسلام و أهل الحق حسب رؤية أصحاب ذلك الفكر لإعلان دولة الخلافة ، إلا أن غلاة ذلك الفكر الدموي وجدوا مع منتصف التسعينات أن الأساليب العنيفة لن تكسبهم شيئا بل سيخسرون أكثر مما يكسبون ، فبدأت ما سمي بالمراجعة لأفكار تلك الجماعات و جاء على قمة تلك المراجعات “الجماعة الإسلامية” ، ثم أعقبها “تنظيم الجهاد” الذي أعلن ايضا تراجعه عن العنف ، و لكن تلك المراجعات شهد معها تنامي للآلة الإعلامية لتلك التيارات ، من خلال أستخدام التقنيات الحديثة مثل شبكة الإنترنيت و القنوات الفضائية ، أنها نقلة نوعية في الأداء لكن الغرض الأساسي لم يتغير هو الوصول إلى حلم الخلافة الإسلامية كما يحب أن يسميها هؤلاء …
لكن السؤال … البداية أين كانت و كيف و لماذا ؟ لابد هنا من العودة للوراء قليلا في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي بعد هزيمة عام 1967 ، فعادة ما تصاحب الهزائم الكبيرة للدول نوع من الردة الإجتماعية في محاولة للبحث عن توازن إجتماعي ، فالمشروع الناصري في تلك الفترة كان قد وصل إلى أقصى درجاته ، خطط تنموية ناجحة ، أنتصارات سياسية بدأ من حرب 1956 ، ثم مشروع الوحدة العربية الذي ظهرت بوادره بالوحدة مع سوريا و بالرغم من فشل التجربة لكن الكل تحمل فشل التجربة على اساس أن الوحدة لن تنجح من المحاولة الأولى و يجب ان نصبر ، ساعد على ذلك حالة الاستقرار السياسي و الاقتصادي و التي جعلت المجتمع المصري في تلك الفترة يتحمل هذا الفشل ، و لكن جاءت هزيمة 67 و الأسلوب الإعلامي الغير مناسب في التعامل معها ، ليفجر أشياء كثيرة داخل المجتمع المصري ، و بدأت تظهر دعوات أن السبب في الهزيمة هو “البعد عن الدين” ، ليتكون معها أولى التيارات المتشددة و التي عرفت إعلاميا باسم تنظيم “التكفير و الهجرة” و لكن الأسم الحقيقي و الذي أطلقه مؤسسها شكري مصطفى هو “جماعة المسلمين”.
بدايات تكوين “جماعة المسلمين” أو ” التكفير و الهجرة ” داخل أسوار السجن الحربي عام 1965 بعد القبض على عدد كبير من شباب و القيادات الصغرى و الوسيطة من الأخوان التي بقيت داخل مصر بعد خروج العديد منهم للملكة العربية السعودية في أواخر الخمسينات ، و إعدام سيد قطب ، و في داخل السجن الحربي تقابل العديد منهم ، حاول الشيخ علي إسماعيل و هو احد القيادات الوسيطة للأخوان في تلك الفترة تجميع الشباب المسجون في السجن الحربي و اللقاء الدورس عليهم و تشجيعهم على تحمل فترة الأعتقال ، يخرج بعدها الشيخ من السجن و يبقى بعض الشباب و منهم “شكري مصطفى” ، الذي أخذ مكان الشيخ في اللقاء الدروس و تجميع الشباب ، إلا أنه أخذ في تجذير فكرة أخرى في عقول مستمعيه و هي فكرة إقامة الدولة الإسلامية عن طريق إعتزال المجتمع ، ثم القفز على السلطة من خلال عصيان مسلح بعد أجتذاب عدد من ضباط و جنود الجيش ليصبحوا نواة للجيش الإسلامي الذي سيكون الداعم الأكبر لإقامة حكم الخلافة ، أستمر أعتقال شكري مصطفى و عدد كبير من زملائه إلى أواخر عام 1971 ليفرج عنهم السادات بعد ذلك ، في محاولة منه لإحداث توازن بين اتيارات اليسارية و الناصرية التي خرجت ضده في مظاهرات بعد إعلانه عام 1971 عام الحسم ، ولكن مر العام ولم يحدث شيئا لتخرج الجامعات و عمال المصانع في مظاهرات حاشدة منددة بالسادات ، و كان قادة تلك التظاهرات من التيارات اليسارية و الناصرية ، و احس السادات أنه محاصر من قبل تلك التيارات ، فبدأ في الأفراج عن العديد من المعتقلين من التيارات الأسلامية و الأخوان المسلمين ، و أطلق أيديهم في الجامعات لتحدث العديد من المواجهات بين الشباب المصري و التيارات الإسلامية لتشهد جامعات مصر لاول مرة في تاريخها مصادمات بين الطلبة استخدم فيها الجنازير و السلاح الأبيض من جانب الإسلاميين …
يخرج شكري مصطفى و اتباعه ، و بايعه المؤيدين له “أميراً للمؤمنين” ، و بدأ شكري في تكوين كوادر خاصة بالمحافظات و المدن و عين لكل محافظة أمير ، و عندما أحس شكري أن دعوته جذبت العديد من الشباب خاصة و أن الموقف السياسي في مصر كان غير واضح فحالة “اللا سلم و الا حرب” سيطرت على المشهد السياسي و احس الكثيرين أن الحرب و الأمل في تحرير الأرض أصبح بعيد المنال ، و بالفعل في سبتمبر 1973 خرج شكري مصطفى و جماعته إلى المناطق الصحراوية في محافظة المنيا ، في إعادة لمفهوم الهجرة ايام الرسول ، لكن لم يمر الوقت طويلا لتبدأ الحرب في أكتوبر و أصبحت تلك الجماعات بالنسبة للأمن و للسادات غير مأمونة الجانب فتم اللقاء القبض عليهم في 26 أكتوبر 73 ، لكن بعد نهاية المعارك الحربية بتوقيع اتفاقية فض الأشتباك الثاني في أبريل 74 ، أصدر السادات قرار جمهوري بالعفو عن المعتقلين ، و كانت فرصة العمـر لهم ، فكثف شكري مصطفى و اتباعه دعوتهم ، و استطاعوا شراء أراضي في منطقة مديرية التحرير و بدءوا في بناء مجتمعهم الخاص بهم ، حيث أعتبرت الجماعة أن المجتمعات خارج جماعتهم هم كفار و يجب قتالهم ، و كان إذا خرج أحدهم عن الجماعة يتم تصفيته فورا حتى يكون عبرة للآخرين.
بدأت أجهزة الأمن في رصد التنظيم ، و بدأت حملة في المحافظات لأعتقال المنتمين له ، و في عام 1977 أحس شكري أنه محاصر من قبل الأمن و حاول الخروج من تلك الأزمة بأن يختطف الشيخ محمد حسين الذهبي ليساوم عليه للإفراج عن بعض زملائهم ، و في نفس الوقت كتهديد له بعد أن هاجم الشيخ الذهبي أفكر تلك الجماعات المتطرفة في محاضراته بجامة الأزهر ، و في مقالته التي نشرتها جريدة الأهرام ، إلا ان العملية انتهت بقتل الشيخ الذهبي و القبض على أغلب أعضاء التنظيم.
أفكار تنظيم التكفير و الهجرة
لم نرى كتب تحليلية خاصة من قبل الجماعة لنحكم على الفلسفة الخاصة بها فقط مجموعة من الرسائل و أوراق متناثرة من الممكن الحصول على عدد غير قليل منها خلال الأنترنيت فهي موجودة حتى هذه اللحظة و من خلال بعض اللذين بقوا من فلول ذلك التنظيم و أورثوه لعدد غير قليل خصوصا في منطقة الخليج و لهم محاولات عديدة لإحياء أفكار شكري مصطفى مرة أخرى نجد من تلك الأوراق القليلة بعض من أساسيات فكر جماعة التكفير و الهجرة ألخصها في عدة نقاط
إن كل المجتمعات القائمة مجتمعات جاهلية و كافرة
إننا نرفض ما يأخذون من أقوال الأئمة و الإجماع و سائر المسميات الأخرى كالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة
إن الالتزام بجماعة المسلمين ركن أساسي كي يكون المسلم مسلما ، و نرفض ما ابتدعه فقهاء السلاطين من تقاليد ، و ما رخصوا لأنفسهم فيه ، و قد أسلموا أمرهم إلى الطاغوت و هو : الحكم بغير ما أنزل الله ، و اعتبروا كل من ينطق بالشهادتين مسلما
إن الإسلام ليس بالتلفظ بالشهادتين ، ولكنه إقرار وعمل ، و من هنا كان المسلم الذي يفارق جماعة المسلمين كافراً.
الإسلام الحق هو الذي تتبناه “جماعة المسلمين” و هو ما كان عليه الرسول و صحابته و عهد الخلافة الراشدة فقط – و بعد هذا لم يكن ثمة إسلام صحيح على وجه الأرض حتى الآن
نجد أن الجماعة في بداية أمرها كانت تدعوا بعدم الأصطدام بالسلطة الحاكمة ، فقط البعد عن مظاهر الكفر بالهجرة للصحراء في حالة إنعزالية عن المجتمع ، ولكن التوسع الذي حدث في دعوة شكري مصطفى خصوصا من منتصف عام 76 ، أصبح يشعر بالقوة أنه يمكن فرض دعوته بالقوة ، كذلك سنجد في بعض كتابات شكري مصطفى خصوصا في كتابه الخلافة وجود عدد من الأحاديث المنسوبة للنبي ، و بالبحث تبين عدم صحتها ، و قد أسماها شكري مصطفى “أحاديث آخر الزمان” ، هذ يدل على شىء عدم تحري الدقة في الاستدلال الشرعي و الفكري عند الجماعة و مفكرها ، كذلك غالبية المقبوض عليهم لم يتموا تعليمهم الجامعي إلا فئة قليلة جدا منهم ، بل و منهم من لم يحصل على شهادة تعليمية ، فكان أعتماد مؤسس الجماعة على جهل متبعيه.
الغريب في الأمر بالرغم من إعدام شكري مصطفى عام 77 ، إلا أن فكره مازال مستمر و لا تزال جماعة التكفير و الهجرة موجودة في مصر و لها العديد من الفروع في كافة الدول العربية ، و لهم مواقع و منتديات خاصة بهم على شبكة الإنترنيت تجذب عدد كبير من الشباب الصغير ولكن حتى هذه اللحظة لم نرى تطويرا في الفكر أو الرؤية …
2 تعليقات على كيف تهدم شعبًا ؟ ( 1 )
أحييك على هذه المقالة زميلي عمرو، أعتقد أنه حان وقت هذه المقالات كي يعرف القراء بتاريخ هذه الجماعات الإرهابية. شكرًا لتسليط الضوء على التكفير والهجرة في هذا الجزء، على أمل أن تلقي الضوء على جماعات إرهابية أخرى في الأجزء القادمة حتى نستكمل سويًا كيفية “هدم شعب!”
لا تنس في آخر جزء خالص، وبعد تلخيصك لكل الجماعات الإسلامية والإرهابية، أن تذكر الإعلام المصري في عهد الضباط الأحرار، أعتقد أنك ذكرته في هذه المقالة، ومن ثمّ في عهد مبارك، وكيف لعب الإعلام أدورًا عدّة في “هدم شعب وتغييبه وتسطيحه وتجهيله.”
( هذا كله بغضّ النظر عن اختلافاتنا الجوهرية عن فترة حكم عبناصر، وما تراه أنت استتباب للأمن واستقرار ورخاص و”انتصار 56″ إلخ… )
Pingback: شباب الشرق الأوسط » أرشيف المدونة » كيف تهدم شعبًا ؟ ( 2 )