
ثورة الرابع عشر من چانفي
الرابع عشر من يناير/چانفي 2011: شاهدت الشوط الأول من مباراة البحرين والهند ضمن فعاليات بطولة كأس الأمم الآسيوية النسخة الخامسة عشر بقطر، والذي انتهى لتوّه، ثم نمت ساعتين، فاستيقظت على خبر سقوط نظام بن علي التونسي، وهروبه المذلّ بطائرته الخاصة باحثًا عن ملجأ، ومن غير فرنسا؟! ولكن الحكومة الفرنسية رفضت استقباله، في دعم غير مُعلن حتى هذه اللحظة للثورة الشعبية التونسية، ومنها قرر الفرار إلى مالطا… جدة… إيطاليا… الإمارات… ولا توجد أخبار مؤكدة حتى هذه اللحظة عن زمكان هبوط بن علي، مما حدى بأحد أصدقائي للتعليق مازحًا على تويتر، أن طائرة بن علي سوف تستمر في الطيران، حتى ينفذ الوقود، وتسقط في البحر. ولكن ليس هذا ذو أهمية كبيرة، مقارنةً بمستقبل تونس بين ظفرين.
إذا رجعنا بالزمن ساعات قليلة للوراء، تحديدًا لمساء الجمعة، لم يكن هنالك سوى تصعيد جديد لاحتجاجات سيدي بوزيد المستمرة منذ السابع عشر من ديسمپر/كانون الأول في ولايات عدة حتى بلغت التظاهرات لتونس العاصمة، ورواج مادة “بن علي” (Ben Ali Trend) على موقع تويتر، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد بعد سلسلة ضطرابات شهدتها البلاد على مدار الشهر الماضي، آخرها كان إقالة وزير الداخلية رفيق بلحاج قاسم، وحظر التجول الليلي في المدن التونسية الكبرى، وتوقّف الدراسة في سائر الجامعات والمداس التونسية، بخلاف مقتل وإصابة مئات الضحايا، وتدمير ممتلكات عدّة. لقد تغيّر المشهد التونسي برمّته في ساعتين، ونقول في مصر “الجول بييجي في ثانية،” وجرف المدّ الشعبي النظام ومعظم حاشيته، بعد أن أخذت العاصفة التونسية منعطفًا خطيرًا وكبيرًا في وقت عصيب وتاريخي لتونس خاصةً وشمال أفريقيا والشرق الأوسط عامةً.
لا أستطيع أن أُخفي تعاطفي مع الشعب التونسي الواعي، ولطالما أُعجبت بالشخصية والثقافة التونسية كثيرًا، ولكن يعتريني بعض القلق من بعض مرتادي موجات التغيير، مثل رئيس الوزراء التونسي محمد الغنوشي الذي نصّب نفسه واصيًا فوق الإرادة التونسية رغم أنه مجرد فرد من العصابة التونسية الفاسدة، وهو أحد بقايا النظام المخلوع، ولا أستطيع أن أُخفي قلقي أيضًا من اعتلاء أحد الإسلاميين السلطة في وقت تنجرف فيه البلاد للفوضى. وفي أي من الحالات السابقة، سوف يكون التغيير ورقي فقط، ومجرد إعادة استنساخ للنظام القديم، تروح في إثره كل هذه الأنفس والممتلكات المخرّبة وجهود مستنيري تونس الحثيثة في التغيير مهبّ الريح. أدرك تمامًا أن التغيير ليس رخيصًا، ولكنه سوف يكون رخيصًا إن لم تسفر هذه الخسائر في الأرواح والممتلكات عن تغيير حقيقي في النظام، وليس تغيير شكلي فقط؛ كي لا تحدث نفس سلسلة الأحداث في المستقبل في حلقة مُفرغة. الجائزة الحقيقية، الذي قد يعوّض الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات، هي ولادة قيصرية لنظام شرعي ديمقراطي. لأن أعمال السلب والنهب والتخريب المتعمّد للممتلكات كانت ولازالت تحفّظي الوحيد على ثورة تونس منذ بدايتها الأولى. وقد صاغ أيضًا هذه التساؤلات المشروعة زميلي السيد أحمد عجّور، محرر موقع ميد إيست تيونز وكاتب مشارك على موقع شباب الشرق الأوسط الإنكليزي، في تدوينته الأخيرة “تونس: عصر جديد؟” بالإنكليزية هنا. وعبّر أيضًا عمّا يجول بعقلي بدقة كبيرة مستخدم “صوت تونس” على تويتر، محدّثًا:
“أيها التونسيون! مازال أمامنا الكثير قبل أن نهنئ بعضنا الآخر. نحن لم ننجح بعد، ومازال بعض بقايا حزب التجمع الدستوري الديمقراطي في سدنة الحكم.”
هل هي ثورة تويتر أو ثورة ويكيليكس كما أسرع البعض بإطلاق الأحكام المسبّقة على ثورة تونس الوليدة؟ أعتقد أن هذه التسميات سابقة لأوانها، ولكن لا مفرّ من سرعة عصر اليقظة وانتباهه المعهود. لا أستطيع أن أُنكر أن تويتر ساهم بشكل كبير في تزكية شعلة تظاهرات تونس، كما ساهم في تظاهرات إيران ومولدوڤا من قبل، بل وساهم أيضًا في تعريف كل المتابعين والمهتمين خارج تونس بما يحدث داخلها. وأيضًا ويكيليكس ساهم بشكل أو بآخر في تعريف النخبة بفساد حكومة بن علي وتجاوزاتها العديدة. ولكن يظل مستخدمي الإنترنت في تونس يشكّلون 30% فقط من إجمالي تعداد تونس، البالغ عشر مليون ونصف نسمة، بحسب تقرير منظمة مراسلين بلا حدود الصادر في مارس الماضي. قطعًا، هي ليست ثورة تويتر أو ويكيليكس، بل ثورة تونس، ثورة الياسمين، أو سيدي بوزيد، أو بوعزيزي، أو ثورة عمّار، أو الرابع عشر من چانفي، الذي قد يكون عيد الاستقلال التونسي الجديد إن حدث ونجحت هذه الثورة، التي تؤشر بوادرها بالنجاح.
الإنترنت هو عنصر فعّال ولا مناص من رصده أثناء تحليلنا لثورة الرابع عشر من چانفي، ولكن لابد أيضًا أن نضع في حسباننا أن أغلب منتفضي ولاية سيدي بوزيد لم يكونوا من مستخدمي الإنترنت، فضلًا عن أن كثير من مستخدمي الإنترنت لم يطّلع على وثائق ويكيليكس، بل ومنهم من لا يستخدم تويتر بالتأكيد. أعتقد أن اليوم الذي سوف يستخدم فيه كل فرد في العالم حاسوب شخصي متّصل بالإنترنت، سوف يكون يوم الخلاص من آخر ديكتاتور على وجه الأرض. هذا اليوم قادم لا محالة.
استهل مسلسل الأحداث في تونس باحتجاجات واسعة في ولاية سيدي بوزيد، التي كانت شرارة انظلاقة ثورة الياسمين، على خلفية إضرام الشاب محمد بوعزيزي النار في جسده أمام مقر بلدية الولاية بعد مصادرة الشرطة لعربة الخضار التي كان يعتاش منها. اندلعت في إثر هذا الحدث المآساوي تظاهرات كبيرة، راح ضحيتها الكثير، واعتُقل بعض المدونين والنشطاء، وخُرّب الكثير والكثير من الممتلكات، وقد غطّينا هذه الأحداث وقت وقوعها. قد تكمن الثورة التونسية كلها في هذه الصورة بالتحديد، لحظة إضرام البوعزيزي النيران في جسده.
وُلد زين العابدين بن علي في 3 سپتمبر/تشرين الأول عام 1936 في حمام سوسة لعائلة متواضعة، درس العلوم العسكرية في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وبعد التدريب العسكري اللازم، عُيّن في المخابرات العسكرية، ثم وزيرًا للأمن القومي في 1985، ثم رئيسًا للوزراء في أوائل عام 1987، قبل أن ينقلب على الرئيس حبيب بورقيبة في نوڤمبر/تشرين الثاني 1987 في انقلاب غير مسلّح. ليخلفه ليصبح بذلك ثاني رئيس لتونس منذ استقلالها عن فرنسا في 1956. وعد بتغييرات ديمقراطية أول ما اعتلى الحكم، وأجرى أول انتخابات تعددية، حصل فيها حزبه، التجمع الدستوري الديمقراطي، على 99.4% من الأصوات. وفي 2002، عدّل الدستور التونسي كي يحظى بفترة رئاسية رابعة، وفي 2009، حظى على فترة خامسة، قبل أن ينتهي رسميًا حكم دام ثلاث وعشرين سنة في الرابع عشر من يناير/چانفي 2011 رزحت تونس خلالهم تحت وطأة حكم عسكري شمولي شهد اعتقالات سياسية واسعة، وتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير، وفساد للرئيس وعائلته وحاشيته وحكوماته، مما أدى لتكهنات حول توريث الحكم لصهره. ناهيك عن حجب ومراقبة الإنترنت اللصيقة التي شهدتها تونس في عصر بن علي، والتي رمز لها نشطاء تونس ونواطنيها (Netizens) عمّار بو مقص 404، في إشارة إلى مقصلة الرقيب التي مارست حجبًا حديديًا على الإنترنت، ولكن وداعًا عمّار بلا عودة! شاهد صور بداية عصر جديد في تونس على بي.بي.سي. من هنا.
لدى بن علي خمس بنات وولد، ثلاث بنات من زوجته الأولى، والبقيّة من ليلى بن علي، السيدة الأولى سابقًا. بن علي، الديكتاتور المخلوع، إلى زوال ولا شك، ولن يذكر أحد سوى تجاوزاته وانتهاكاته التي قد تُفتضح واحدة تلو الأخرى على السطح في الأيام القليلة القادمة. ولن تنير صفحات التاريخ سوى الإرادة الفردية القادرة على التغيير للأفضل! هل هذه شرارة إلى الجيران في الشرق الأوسط الكبير تفيد فعل مصدره “و ع ى”؟!
تابع الوضع التونسي لحظة بلحظة على موقع الشبكة، كراود ڤويس: أصوات الاحتجاج.
* الصورة من مقال مجلة السياسة الخارجية.
8 تعليقات على زين العابدين “عمّار” بن علي: خطأ 404. لم يتم العثور على الصفحة المطلوبة!
أحسنت يا زيدان، أعجبني هذا المقال للغاية. تعاطف مشروع وقلق مشروع وأسئلة واجبة.
أشكرك يا شمسي!
مقال متميز يا زيدان.
ما فعله النظام التونسى الفاشى هو إلقاء الشعب فى اليم مكتوف الأيدى و قال له إياك إياك أن تبتل.
لا خوف بعد اليوم على الشعب التونسى، فهو من سيأتى بالديمقراطية كما أسقط رأس الاستبداد و سيقضى قريبا على ذيول النظام الفاشى.
محمد الغنوشى كان موقفه غير دستورى حيث أن بن على لم يفوضه طبقا للفصل 56 من الدستور، و هذا ما تم استدراكه اليوم بتولى رئيس مجلس النواب للسلطة بصفه مؤقته أقصاها 60 يوما و أدناها 40 يوما، على أن يتم انتخاب رئيس للجمهورية لمدة 5 سنوات، وهذا ما حدث ظهيرةهذا اليوم حيث تولى فؤاد المبزع منصب الرئيس مؤقتا و قام بتكليف الغنوشي تشكيل حكومة وحدة وطنية.
أنا متفائل جدا، أتمنى أن لا يشمت التونسيون البرانى فيهم، و يتفاهموا بشكل ديمقراطى و سلمى للخروجمن عنق الزجاجة.
النسخة القادمة فى مصر، باذن و مشيئة الشعب.
قولوا آمين
لا أريدها نسخة فيها تعدّي على الممتلكات وتخريب متعمد وسلب ونهب! أريدها نسخة احتجاجية يهرب أو يتنحّى بعدها مبارك، ولا أكثر!
قلقي كبير! سواء بالخريب أو بقفز الإسلاميين للسلطة!
و أنا كذلك متخوف مثلك، لكننا نتمنى دولة مدنية تكفل الحرية للكل بدون تميز، و ان تكون نبراسالكل الشعوب المقهورة .
التخريب يتم من عصابات،و هو تخريب ممنهج لتشويه تلك الهبة الشعبية، و على حد علمى فان الشباب هناك يقومون بعمل تشكيلات لمساعدة الجيش ف الحفاظ على الممتلكات، كما دعا الاتحاد العام للشغل الى ذلك أيضا.
نعم، هذا ما سمعت أيضًا!
كل ما نتمناه الان ان تصبح تونس دولة مدنية ديمقراطية وبالتالى ستصبح اول دولة عربية يثور فيها الشعب على رئيسها ويختار حاكمه
علها تصبح تجربة ناجحة وتعمم فى سائر الدول العربية والديكتاتورية
ولكن ليس بنفس الدمار والتخريب سيدي عمرو!
هو فعلًا لو تم عمل الانتخابات في موعدها في منتصف مارس/آذار، وانتُخب رئيسًا بطريقة ديمقراطية في تونس، سوف تكون القمة العربية الأولى، التي سوف تنعقد نهاية مارس التي يحضر فيها رئيس عربي منتخب بطريقة ديمقراطية في تاريخ الشرق الأوسط. هم يبكّي…