كان انعزال يهود أوروبا وحياتهم داخل الجيتوهات (مناطق على أطراف المدن، مخصصة لحياة اليهود)، حتى القرن السابع عشر، سبباً أساسياً فى استمرار مُعاناتهم، فكانت بروسيا الألمانية، مثلاً تعانى من مشاكل خارجية موجعة، بينما هم لا يناقشون أو يتكلمون عن شىء آخر، غير الاضطهاد الذى يصيبهم، ولا يمكن أن ننكر أنهم كانوا مضطهدون بالفعل، ولكنهم تجاوزوا محنة الشعب الذى كانوا يعيشون فى أطرافه، ولم يركزوا إلا على محنهم الخاصة، فحق لمضطهديهم، أن يؤكدوا على حجيتهم، بأنهم ليسو منهم، لعدم اهتمامهم إلا بمشاكلهم الذاتية!!.
لقد قام رجل ألمانى مثقف ليبرالى الهوى، من وسط اليهود، هو موسى مندلسون، بإخرج اليهود من محنتهم تلك، ودمجهم فى وسط الحياة الألمانية، بفعل بسيط للغاية، ولكنه كان ذا مغزى مهم جداً، لقد كانت التوراة تُقرأ باللغة اليديشية، وهى التى تدمج ما بين الألمانية والعبرية.
فرأى مندلسون، أن هذا يؤدى إلى المزيد من العزلة، ويجعل من اللغة اليديشية، هى الأهم بالنسبة لليهود فى ألمانيا، ومن ثم تصبح التعاملات اليهودية، مع من هم خارج الجيتو اليهودى، قليلة للغاية.
لقد ترجم موسى مندلسون، التوراة، إلى اللغة الألمانية، مما غير من تعاملات اليهود كلياً وعلى أجيال متعاقبة، وصاروا جزء من الشعب الألمانى، حتى تسيدوا أوروبا فيما بعد، فى جوانب متعددة، أهمها المال والإعلام، لقد خرج اليهود من الجيتو لديهم، ومن ثم اختلطوا واندمجوا مع الشعب الألمانى المسيحى، وأصبحت قضايا هذا الشعب قضاياهم، ومشاكله مشاكلهم، حتى اندثر القمع والاضطهاد حيالهم تماماً، لأنهم أثبتوا بعد خروجهم من عزلتهم السابقة، أنهم جزء لا يتجزأ من هذا الشعب المدنى!!.
لقد خرجوا من تحت العباءة الدينية للمعبد اليهودى، وصاروا يحيون فى الدولة المدنية بمكوناتها، ولم يكن ولائهم للمعبد بعد ذلك، إلا فى المناحى الدينية فقط، وعبر تنفيذ تلك الفكرة، عن بدء عصر “التنوير اليهودى”.
لقد طور اليهود تلك الفكرة، فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى طريقة أكثر ذكاءً لنيل حقوقهم، فكانوا على رؤوس الأشهاد فى معركة الدفاع عن حقوق السود فى خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، كانوا يرون أنه بنيل السود لحقوقهم بالولايات المتحدة الأمريكية، ستنال جميع الأقليات الأُخرى حقوقها أيضاً، بما فى ذلك اليهود وبالتالى، فإنهم دخلوا معارك ضارية، من أجل حقوق السود بأمريكا، حتى نالوا حقوقهم معهم، ثم أصبحوا من أقوى الأقليات فى الولايات المتحدة الأمريكية.
إن كل الإستراتيجيات السابقة، إنما تعبر عن الفكرة الأهم، وهى فكرة “الاندماج” أو أن يصبح “الواحد جزء من المجموع”، ولقد اعتمدت إسرائيل، كدولة، تلك الفكرة، فى التطوير الأهم لرؤية موسى مندلسون.
فهى دوماً توضح أنها جزء من العالم، وليست مختلفة أو ذات خصوصية عنه، كما تفعل بعض دول المنطقة، على سبيل المثال، ففى إطار إحدى خطابات نتانياهو فى الأمم المتحدة، وقف يؤكد أن إسرائيل، ساهمت مع العالم، فى الأبحاث حول الخريطة الجينية والتكنولوجيات المختلفة، عاملة على تطوير العالم، من أجل الإنسان فى كل مكان، وفى نفس الخطاب، بدأ وانتهى نتانياهو كلماته، بمن يعتبر نفسه أعلى من العالم، وليس جزءاً منه، وأشار بإصبع الاتهام إلى أحمدى نجاد، الذى دوماً ما يتكلم عن خصوصية بلاده! وهنا، تُعتبر تلك الإستراتيجية، هى إستراتيجية دفاع “ذكى” عن إسرائيل من جانبه، ونوع من التشتيت عن القمع الذى تمارسه إسرائيل يومياً، ضد الفلسطينيين، وما تغتصبه من أرضهم!! ولكن، فى النهاية، أثبتت تلك الإستراتيجية، نجاحها السياسى، بربط اليهود مصالحهم، مع القوى الكُبرى فى العالم!.
إن استمرار الأقليات فى أى مكان فى عزلتهم، وفى تأكيدهم فقط على قضاياهم، دون القضايا الأخرى فى البلد الذى ينتمون إليه، وفى تجنب الحديث حول الشأن العام، والاشتراك فى أعمال محددة فقط، من خلال أوامر من المؤسسات الدينية، والتبعية لتلك المؤسسات، أكثر من التبعية للسلطات الشرعية فى البلاد، والإحساس بهويتهم الدينية، فى الوطن، أعلى من إحساسهم بهويتهم الوطنية، بينما يطالبون بالمواطنة، لن يحل مشاكلهم، بل سيزيدها تعقيداً، فى حين تدخل المنطقة كل يوم، فى مزيد من الفوضى.
إننا وفى مصر، نحتاج من كل مصرى، أن يشعر بمصريته، بشدة، ولا أنكر أهمية الدين، ولكن داخل دور العبادة وفى سلوكياته الدينية المحضة، لأننا عندما نسافر إلى الخارج، إنما نبرز “بسبور” مصرى عليه صورة “النسر”، وليس بسبور عليه صورة “الهلال” أو “الصليب”!! يجب أن يندمج الأقباط والبهائيين والشيعة المصريين، فى قضايا مصر، والدفاع عنها، وألا يظلوا فى عزلتهم، بأوامر عليا من المؤسسة الدينية لديهم أو بشعور إنتماء أعلى إليها، للدفاع عن قضايا لها علاقة بالانتماءات لتلك المؤسسات، وكأنهم جنود لديها، فى دولة داخل الدولة!! يجب وأن يحولوا قضاياهم إلى قضايا مصرية، ويشعروا الجميع، أنهم يتناولون كل شئون مصر، مندمجين مع الجميع، ولا يتناولون فقط أجزاء من تلك الشئون وفقاً لمصالح طائفية!! يجب ألا يشعروا بأنهم أغراب فى بلادهم، بأن يخرجوا من خنادقهم، ويدافعوا عن كل القضايا الوطنية المصرية، ليقضوا على المشكلة الطائفية تماماً، ويكفوا عن منح الذريعة، لمن يقول أنهم ليسوا بمصريين، بينما هم مصريون قلباً وقالباً.
ملاحظة أخيرة، عندما نجلس معاً كمصريين، فى ود جلسات المُصارحة، بعيداً عن التمييز، لا نجد فارقاً بين بعضنا البعض، ونجد أننا واحد بالفعل، دون مُجاملات، ولا يُمكن التمييز بين مصرى ومصرى، على أى أساس، بما فى ذلك الدين، فاندماج الجميع، فى بوتقة مصر، هو الحامى الأول لهذا الوطن، ويزيل كلمتى، أقلية وأغلبية، من قاموس حياتنا.
• شريف حافظ – أستاذ علوم سياسية .
3 تعليقات على رسالة التنوير إلى الأقليات
متفق معك شبه كليًا دكتور شريف في طرحك، فأقليات كثيرة وجدتها تتعاطف وتساند قضيتها فقط، بل تستهزئ بقضايا الآخرين، وهذا سبب للعزلة. ولكن هناك أمثلة أخرى من أقليات خرجوا من شرنقة معتقدهم أو قضيتهم الخاصة، ليربطوا الخاص بالعام، ويساندوا الفرد أي كان.
أنا لا أعتقد بحقوق أي جماعات أو مجموعات خاصة، ولكن هناك حقوق للفرد فقط.
هناك صديق على موقع فيسبوك رأى أن هذه المقالة معادية للسامية، ولكني رديت، بالنيابة عن سيادتك، قائلًا أن دكتور شريف لم يعني إلا عرض لليهود نموذجًا وليس للتنفير أو الاستهزاء، وهو يحترم كل الأفراد بغض النظر عن ديانتهم. يا ليتك تقرأ تعليق هذا الصديق.
تحياتي
Great blog post. It’s useful information.
Very good website you have here but I was curious if you knew
of any message boards that cover the same topics discussed here?
I’d really love to be a part of community where I can get advice from other experienced individuals that share
the same interest. If you have any suggestions, please let me know.
Thank you!