اغتـراب
ترددت كثيرا قبل أن تدخل غرفتها، فحالتها النفسية تسوء في كل مرة تتجول فيها داخلها، الكراسي.. المناضد.. ألبـوم الصـور.. أكواب اللبن.. العطـور.. خواتم المناسبات وملابس السـهرات؛ كل شيء في مكانه، كل شيء يذكرها بهم.
دخلت الغرفة في هدوء وتعشم أن تخرج منها بنفس الهدوء، آخر مرة أخرجها الجيران تلبية لصراخها المستغيث وظنوا أن بها مـسٌ من هول ما روته عليهم، اليوم اختلف الأمر فالأبواب موصدة من الداخل، والإضاءة خافتة، وحبوب المهدء تناولتها كما أمر الطبيب، لتكـرري التجربة.. هكذا يحدثها عقلها، اقتربت ببطء تجاه المنضدة وتأملت ألبوم الصـور ثم تناولته بحركة آلـية اعتادت عليها وراحت تتأمل محتوياته وتتذكر…
تتـفقد كل صورة التقطت لها، وقت التصوير، وضع من كانوا بالصورة حينها، من يصور ومن يقف بجانبها ومن اعتذر عن التقاط الصورة معها، على كل حال من يهتم ومن يبالي؟ الجميع ذهبوا ولم يتركوا لها سوى ذكرة في كل صورة.
تذكرت صورتها في عيادة الطبيب إبتهاجا بحملها الأول من زواجها الأول، وبعد تسعة أشهر ولد الطفـل، لم يبك.. لم يتألم، ظل صامتا ليموت في احتفال عيد ميلاده الأول.. كان ذلك هو زواجها الأول.
تذكرت فيض ثدييها باللبن بعد وفاة الطفل، اللبن الذي لم يأت في وقته ليغذيه حين احتاجت إليه، جاءها الآن وماذا تفعل به؟، كان السائل يفيض وكأنه من جـرح لا من حلـمة، مما اضطرها لإرضاع حيوانات الحقل وطيور السماء وما تبقى منه احتفظت به في أكواب على منضدة غرفتها.
كانت نصيحة أختها أن تكرر الزواج فالوحدة لا قيمة لها لمن هن مثلها، شابة صغيرة ومطمع للرجال والأدهى معها طفلان، صبي وفتاة، كلاهما في العاشرة، في إحدى الأيام دخلت الفـتاة وهي تصرخ وتنشج:أمـيّ لقد صدمت إحدى السيارات أخيّ.. أميّ..أميّ اسرعيّ… ركضت الأم للخارج وارتمت فوق الصبي غير مصدقة ما حدث، منذ لحظات كان صوته يملأ المكان، ظلت واقفة وكأنها تنتظر معجزة فوقية، ثم بكت بحرقة هستيرية.. ألا يكفيها موت زوجها… ياللسماء. تحرك فم الصبي ليقبلها في خدها المنحني تجاهه وراح هو والفتاة يركضان ويضحكان بصوت مرتفع حولها محتفلين بالخدعة التي اوقعا أمهما فيها، ولكن الأم لم تضحك وظلت متذكرة الموقف وحين استفهمت منها الفتاة فيما بعد أخبرتها أنها ستعرف معنى أن تفقد جزء منها يوما ما.
وها قد أتى اليوم اليوم وهي تجلس وحيدة في غرفتها تتذكر طفلها المفقود، لم يبق ليركض حولها، لم تكن خدعة كما فعلت هي بأمها، بل كان موتا حقيقيا لطفل لم يبلغ عامه الأول ومن حينها ظلت حبيسة غرفتها وصورها القديمة.
تذكرت وقوف زوجها وأخيـها في نعيها لا يجدا ما يقولانه، فحياتها معهما كانت صامتة ولم تترك الأثر الملحوظ. في التأبين لم يحضر أحد، ولم توجد أي ورود على قبرها مجرد أسمها منقوش على الحجـر بحروف سوداء بارزة يعلوها صليب فضيّ.
بظهـر يدها راحت تمسح بعض الدمعـات المترقرقة على خديها فلاحظـت غياب خاتم الزفـاف من يدها، ربمـا سقط منـها وربما خلـعته، لكنه تذكرت إنه الخاتم الذي لم ترتديه أبدا، فهي الطفـلة الوحيدة لأمهـا التي ماتت وهي تنجـبها، لم يكن هناك أخ ولم يكن هناك زوج، وهي مازلت حتى الآن عذراء، والغـرفة ما هي إلا حُـلٍم عابر كانـت فيه وقت ما ترى بعضُ من مستـقبلها، وتذكرت إن طبيبها النفسي وعـدها بكتـابة هذه السطـور عنـها..
3 تعليقات على اغتـراب
رائع هذا التحول المليء بالدهشة!
ساستمر في الدهشة طالما مازلت اكتب… تحياتي
بجد رائعة وفكرتها عجبتنى جداا
اسلوبك فالسرد ممتع