كنت بفضولي هاوية لملاحقة البرامج الوثائقية منذ نعومة الأظفار وكنت لسبب ما أستبشر التشكيلية القادمة -ولم ترد المشيئة أو لم أسع أنا- ورأيت في إحدى البرامج التلفزيونية لوحة Saturn Devouring His Sun “زحل يلتهم إبنه”
ومثل تشجيعي لنادي المريخ السوداني -العلاقة الأولى، يحركها هوس بالفضاء والفلك- اسم اللوحة عرفني بغويا. وكنت شغوفة بالأساطير وميثولوجيا الإغريق وغيرهم وأفلام الكرتون التي تطرقها. ومن المفارقة أن يكون صاحب اللوحة من مناهضي الخرافة حسب المرجعية الفكرية لمفكري ذلك العصر. ومع ذاكرة كهذه، محاولة الإنصاف قد تأتي من نزعة وجدانية أكثر من كونها نقدية محضة.
فرانشيسكو دي غويا تخيله كثير من المثقفين والباحثين، رجلاً إكتئب وانعزل
-ثنائية الإبداع والعزلة- التي لا يجب أن تعمم، تلك الكليشيه. لكن بالحقيقة غويا لم يكن معزولاً سياسياً أو فكرياً.
ووجود لوحته عند أحد الأصدقاء على فيسبوك ننقاشها الآن هو ما راهن عليه.
غويا رسام الأجيال القادمة كذلك. غويا أعتبره حاله حال نيرودا بتشيلي، رسام الشعب الإسباني بالرغم من أنه كان رسام الملك!.
وغويا كان قد شاهَدَنا في لوحته “درب الجحيم” فقد كان بعيد النظر Long-sighted
إكتشف عبث التجمل بحقوق الإنسان وكل البروباغندا التي تحدث اليوم منذ زمان بعيد!.
حين نذكر فلاسفة عصر التنوير نغفل عن ذكر إسمه لأنه رسام. ولكنه ليس رساماً ينجز أعمالاً فنية عظيمة وحسب، كما هو حال الكثيرين بل صاحب ثورة فكرية وكان باحثاً عن المعرفة ومتصالحا تماماً مع أفكاره ولم يزيف الواقع ولم يعكسه كذلك بل صوّر رؤيته الفكرية الخاصة وترك للمتلقي مجالاً واسعاً للتأمل دون أن ينسى تذكيره بأنه كذلك تأمَل في واقع بعينه، فكان يعنون لوحاته بإسلوب ساخر ورغم الحقيقة الصادمة في لوحاته، حافظ على مغناطيسيتها، رغم أنه لم يتعمد إسلوب إستطيقي Aesthetics
لذلك حين نذكر جان جاك روسو و ايمانويل كانط وجون لوك وآخرين، لا بد أن نراه بينهم. الفرق أنه ‘رسام شعب’ لغته كانت تخاطب الجميع .. تخاطب المألوف وليست نخبوية..
وبفردانيته نفسها، وهنا تتجلى مهارة “السهل الممتنع”.
إن كانت في عصره قامت الثورة الفرنسية بفتوحاتها، فهو قد كان شاهد عصر على إحتلال بلاده حينها. لم يتخل عن مبادئ العدالة والمساواة وكل رؤى المستنيرين لكنه كذلك لم يغض الطرف عن الثمن الباهظ للديماغوجيا وبالتالي القمع والعنف.
كان عقلانيا وأراه شبيهاً في تجرده الذي تترجمه لوحاته، بسوبرمان جورج برنارد شو في مسرحيته، للإنسان القادم من الغد. وقد راهن على الغد كثيراً.
كان محللاً سياسياً واعياً، لم يعزل نفسه عن دراسة الواقع. ولوحات مثل “خراب الحرب” بها دراسة أيديولوجية لم تفُت على نظام الحكم الديكتاتوري حينها، فصادروها.
يظن بعض المثقفين أنه كان معزولاً فكرياً مستندين على
(اللوحات السوداء) في بيته. هذا فقط لأن أغلب الأكاديميين والإنتلجينسيا لا يفهمون العباقرة!.
غويا أمضى وقتاً طويلاً يفعل ما يحب، رسم كثيراً وزيّن جدران بيته بلوحاته، وأغلق عليها باب بيته وببساطة,خرج!. بل رحل خارج إسبانيا.
كأنه يقول: (لا تشاهدوا لوحاتي ولا تشتروها، ماذا سأستفيد من مشاهدتكم .. إنها لأجيال أخرى)
ليست هذه اللوحات بالضرورة إنعكاساً لمالنخوليا بل هي بالأحرى انعكاسا لرؤيته للعالم.
عالم الأمس، جدُ عالم اليوم.
لو كان فنان آخر مثل رينيه ماغريت حاضراً لقال: (هذه ليست بعزلة). هذا الإندماج في خضم الأحداث، والإنهماك في تحليل الواقع وإعلان المخاوف والهم بالقادم الذي تنبأ به، قد وصلنا وها نحن نتوقف عنده على صفحات التواصل الإجتماعي.
____________________________________
اللوحة :- Third Of May (الثالث من مايو) تصور إعدام الثوار الإسبانيين 1808م
* رينيه ماغريت فنان بلجيكي مفكر, من لوحاته الشهيرة لوحة رسم بها غليون وكتب عليها بالفرنسية “هذا ليس بغليون”
* مسرحية الكاتب الأديب الإيرلندي الساخر جورج برنارد شو (الإنسان والسوبرمان)
- للتعرف على فرانشيسكو دي غويا بشكل أوسع وأعمق, أنصحكم ب (غويا على ضوء عصر الأنوار) للفيلسوف والمفكر البلغاري الذي رحل عن عالمنا هذا الشهر، تزيفتان تودروف