مصداقية كل ما كتب من تفاصيل في التاريخ الإسلامي تساوي صفرا بمفهوم التاريخ كعلم، بداية مما كتب من سيرة محمد و تفاصيل دعوته و حروبه و غزواته و صراعاته مع الملأ المكي و حتى سقوط الخلافة العباسية عام 1258 على يد التتار … !!!

تاريخنا لم يكتب كشهادة على عصور معينة برواية تفاصيل الأحداث و الشخصيات و تقاطعاتها و صراعاتها السياسية و الدينية و الاجتماعية و الاقتصادية، بل ارتبط دوما برغبة محمومة في تعظيم شأن هاته الشخصيات في كل فترة زمنية ظهرت فيها، و البداية كانت مع محمد بالذات، فقراءة السيرة النبوية مهمة مضنية و معقدة من فرط المجهود الضخم الذي قد يبذله كل من يسعى لفهم الأحداث بمنظور العقل المتجرد و الموضوعي.

و محمد كشخص قد تجاوز الحدود البشرية في التاريخ الإسلامي ليتحول إلى أسطورة ضخمة و متعددة الصفات و الأوجه، فمن جهة لا يمكننا أنن ننكر أن الرجل قد كان بالدرجة الأولى ثائرا و متمردا على المفاهيم و النظم الإجتماعية و الدينية للمجتمع الذي ولد و نشأ فيه، و هو بهذا الشكل قد يحمل صفة المصلح الديني و الإجتماعي، لكنه كان في نفس الوقت رجل سياسة براغماتي جدا و انتهازي بشدة في مراحل متعددة من صراعه مع قريش و سادتها، بل حتى مع قبائل يهود يثرب و زعماءها، فقد سعى لتشكيل التحالفات السياسية و العسكرية و الاقتصادية حتى مع أولئك الذين كان يعرف أنهم يعادون حركته في سرهم و يظهرون له غير ما يبطنون، فدعوته لرهط من أصحابه للهجرة للحبشة لم تكن سوى سعيا وراء إمكانية تحالف سياسي مع ملكها أصحمة ابن أبجر الملقب بالنجاشي و لما تحالف عسكري يدعمه في صراعه مع الملأ المكي، بل حتى هجرته من مكة إلى المدينة لم تكن إلا نتيجة مباشرة لتحالف سياسي مع قبيلة الخزرج القوية في المدينة، و أبلغ دليل على هاته الحقيقة هو كونه قد اختار النزول عند أخواله من قبيلة بني النجار الخزرجية، و رغم أن البعض قد يتحجج بكون محمد لم يكن له أخوال مباشرون أي بمعنى أشقاء فعليون لأمه آمنة بنت وهب، لكن درج العرف عند العرب حينها ( ولا زال حتى اليوم ) في اعتبار جميع رجال القبيلة التي تنحدر منها الأم أخوالا.

رسم عثماني لحادثة قتل النضر ابن الحارث لى يد علي ابن أبي طالب عقب أسره في معركة بدر

رسم عثماني لحادثة قتل النضر ابن الحارث لى يد علي ابن أبي طالب عقب أسره في معركة بدر

هاته الهجرة إذن لم تكن لتنجح دون هذا التحالف المباشر مع قبيلتي الأوس و الخزرج و هو ما سمي ببعتي العقبة الأولى و الثانية, و قد سبقت هذه الهجرة محاولة أخرى في منطقة الطائف جنوب شرق مكة باحثا عن الدعم لدى قبلة ثقيف، لكن المحاولة فشلت عندما تعرض محمد هناك للإهانة و الضرب، بل و حتى عندما طلب من سادة ثقيف أن يخفوا أمر قدومه لديهم عن قريش لم يجيبوه إلى ذلك، و في طريق عودته إلى مكة توقف للمبيت ليلا في واحة و قام للصلاة، فنزلت عليه الآيات التالية من سورة الجن : ” قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) “ فعاد إلى رفيقه في الرحلة زيد ابن حارثة ليحدثه بكون الجن قد إستمعوا إليه و هو يقرأ القرآن في صلاته، و هذا تصرف ليس له إلا معنى واحد، فالرجل قد ذهب يبحث عن الدعم المادي و المعنوي لدى قبيلة من سادة العرب، لكنه أهين  و طرد شر طردة و بالتالي فادعاءه بأن الجن يستمع له و هو يقرأ القرآن و يقتنع بدعوته لهو في نهاية الأمر تعويض نفسي عما وقع له عند  ثقيف، فالبشر يرفضونه بينما الجن و هم مخلوقات خارقة يستمعون لقرآنه و يتخشعون من فرط التأثير، و حتى عند عودته لمكة بعد رجوعه من الطائف لم تكن لمحمد الجرأة على دخول و هو عائد إلبها مطرودا و مهانا، فتوقف خارج المدينة و أرسل برجل من قبيلة خزاعة إلى رجل من سادة قريش يدعى المطعم بن عدي و هو من بني عبد مناف، أي من نفس نسب محمد، ليطلب منه أن يجيره ليدخل مكة تحت حمايته، و هو ما كان، و يروي ابن سعد في طبقاته الكبرى القصة كما يلي : ” ودعا المطعم بنيه وقومه فقال: «تلبسوا السّلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا»، فدخل محمد ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى «يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم» فانتهى النبي محمد إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي و ولده محيطون به “.

و قد تلت هاته المحاولة مع ثقيف محاولات أخرى مع عدة قبائل أخرى، حيث كان محمد يترصدها في مواسم الحج و يلتقي بسادتها عارضا أمره عليهم لعله يحصل على تحالف يدعم دعوته، و قد حاول مع بني حنيفة كلب و كندة لكنهم لم يستجيبوا لدعوته, أما بنو عامر فقد اشترطوا عليه أن يكون الملك لهم من بعده لكنه رفض، و قد استمر في محاولاته الدؤوبة موسما بعد موسم حتى كانت بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي انتهت بتحالف مباشر مع الأوس و الخزرج و هو التحالف الذي كان يحقق مصلحة القبيلتين معا في مواجهة يهود يثرب و نواحيها.

و في مرحلة أخرى بعد هجرته ليثرب لم يتردد محمد في التحالف مع من كانت العرب تسميهم بالصعاليك، و هم عصابات من المجرمين والطائشين الذين طردتهم قبائلهم وسموا بالـ (الخلعاء)، و قد تجمعوا فيما بينهم مشكلين جماعات صغيرة تمتهن قطع الطريق على قوافل الحج و التجارة و غزو مرابض القبائل و قطعان الإبل، و كانوا يتنقلون بحرية بين دروب الصحراء، يستسهلون القتل و الخطف و السبي، مما شكل منهم قوة مرعبة بالنسبة للعرب حينها، و قد كان أشهرهم هو الصحابي أبو ذر الغفاري، وهو من أعتى صعاليك عصره وينتسب إلى قبيلة غفار المشهورة باحتراف قطع الطرق على القوافل لسرقتها و نهبها.

و في حركة شديدة البراغماتية لجأ محمد إلى التحالف معهم لأنه فهم أنهم قوة عسكرية تشبه المرتزقة و سوف يساعدونه في حربه مع قريش و خاصة في الإغارة على الآبار و محطات توقف قوافل تجارتهم، فالرجل قد هاجر خارج المدينة مع أتباعه و أصحابه و بات في حاجة لمداخيل مادية كبيرة لكي يوفر لهم معيشة قارة و لكي يستطيع تسليحهم و إعدادهم لمعاركه.
و قد جاء في الطبقات الكبرى، لابن سعد في الجزء الأول، ص155 : “كتب رسول الله صلعم لجُمّاع كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة من كنانة ومُزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد، و قد وفدَ منهم وفدٌ على النبي فكتب لهم رسالة قال فيها :

“بسم الله الرحمن الرحيم, هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء, أنهم إن آمنوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإن عبدهم حرّ, و مولاهم محمد، و من كان منهم من قبيلة لم يردّ إليها, و ما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم، و ما كان لهم من دين في الناس رُدّ إليهم, و لا ظلم عليهم و لا عدوان و إن لهم على ذلك ذمة الله و ذمة محمد والسلام عليكم”.

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء

ها هو النبي إذن يضع معالم تحالف قوي مع عصابة من المجرمين و قطاع الطرق، فيضع نفسهم في مقام مولاهم (سيدهم و زعيمهم)، و يؤمنهم بعدم إعادتهم لقبائلهم عنوة، و جعل جرائمهم من القتل و السرقة و السلب و النهب و السبي فعلا مشروعا لهم، بل زاد على ذلك بأن جعل لهم في أعناق الناس دينا رغم كونهم في عرف القبائل مجرد مجرمين يحترفون السرقة و قطع الطريق بل و جعلهم في ذمته مما يعني أن كل من يحاربهم يحاربه و يستعديه، و كل هذا طبعا مشروط بأن يقروا بنبوته و يتبعوا دعوته و يطبقوا طقوس الدين الجديد، و ها هو محمد هنا يتصرف بسياسة منفعية و هو يتحالف مع عصابات من القتلة و اللصوص لكي يقوي بهم دعوته و يسيرهم لاعتراض قوافل قريش المتجهة إلى الشام، فهو يعلم جيدا أن لا سبيل له لإقناع أنصاره في يثرب للخروج وراء قوافل قريش، خاصة و أن حلفه معهم لا يتضمن الدفاع عنه خارج حدود يثرب ( في معركة بدر لم يخرج معه أكثر من ثلاثمائة و عشرون رجلا، مع العلم أنه قد هاجر معه أكثر من مئتين من أصحابه من مكة)، و لهذا لجأ إلى عصابات الصعاليك، فهم ليسوا بحديثي عهد بقطع الطرق و السرقة و القتل، و لهذا استخدمهم كمرتزقة في حربه مع قريش.

يقول المؤرخ الكبير د. جواد علي في كتابه : المفصّل في التاريخ، الجزء التاسع، ص 602 : “والصعاليك حاقدون على مجتمعهم، متمردون عليه لا يبالون من شيء و لو كان سلباً و نهباً و قتل أبناء عشيرتهم، لأنهم خلعوا منه و كل ما تقع أعينهم عليه، و هو مفيد لهم نافع، و من حقهم انتزاعه من مالكه، و إن كان مالكه فقيراً معدماً مثلهم…و يرون الخلاص من هذا الذل بالحصول على المال بالقتل و السيف، فمن استعمل سيفه نال ما يريد، لا يبالي فيمن سيقع السيف عليه، و إلا عدّ من العيال“، و دعونا نتأمل في حديث لمحمد يتوافق تماما مع توجه الصعاليك، أليس هو القائل : “من قتل رجلا له عليه بينة فله سلبه “، و ما البينة هنا إلا الفرق بين من آمن بدعوته و صدق نبوته و اتبعه، و إلا كان كافرا يحل دمه و ماله و عرضه، و هذا بالضبط هو صميم العهد بينه و بين عصابات الصعاليك التي تقوى بدعمها على المضي في أمره.

كل هاته الأحداث التي فصلتها أعلاه تبين أن محمد قطعا لم يكن رجلا عاديا، بل كان شديد الذكاء و لم يتوانى لحظة واحدة عن انتهاز أية فرصة تمنحه التفوق السياسي و العسكري الذي يسمح له بمد دعوته بين قبائل العرب، حتى و هو يتحالف مع المجرمين و قطاع الطرق في تصرف مشين لا يليق بمقامه كنبي، لكن المشكلة الأساسية هنا هي أن الطريقة التي كتب بها التاريخ الإسلامي كما نعرفه لا تسمح بتاتا بالتعرف على هاته الجوانب المهمة من حياة الرجل، و لا بدراستها و تحليلها بالطريقة المجردة و الموضوعية التي تخرجه من ذلك البعد الأسطوري الذي أضفاه عليه كناب السيرة و المؤرخون العرب و المسلمون، هذا البعد قد حول محمد لشكل من أشكال الميتاتاريخ، حيث يتجاوز الرجل وجوده كبشر ليتحول إلى شخص مقدس خصه الله باختيار سماوي يرفعه إلى مراتب تتجاوز قدرات البشر العاديين، فتصبح كل تصرفاته و اختياراته و قراراته مجرد تطبيق لإرادة إلهية حتى و إن كانت مجرد خيارات بشرية محضة تصيب و تخطئ، بل و تلجأ أحيانا لقمة الإنتهازية للوصول لأهداف بعينها.

مهدي بوعبيد
31/07/216