يؤمن المسلمون اليوم بشكل قطعي أن النبي محمد  جاء ذكره واضحا في التوراة و الإنجيل، بشكل بين لا لبس فيه كنبوءة إلهية ثابتة لمن سبقه من الأنبياء، و بخاصة منهم موسى نبي العهد اليم و عيسى المسيح نبي العهد الجديد، و قد لا أكون مبالغا إذا ما قلت بأن نبوة محمد عند المسلمين تعتمد في أساسها على مسألة وجوده مذكورا بالإسم عند اليهود و المسيحيين، و أصل فكرة إعتبار أهل الكتاب كفارا من وجهة نظر الإسلام راجع بالأساس إلى كونهم قد جحدوا هاته الحقيقة الإلهية الإعجازية التي يعرفونها حق المعرفة في كتبهم.

جاء في الآية 6 من سورة الصف قوله : { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين }.

و في الآية 175 من سورة الأعراف قوله : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }.

محمد في القرآن

محمد في القرآن

هكذا يتحدث القرآن محمد عن نفسه في آياته، لكن الحقيقة التي يتجاهلها مفسروا الكتاب هي أن التوراة و الإنجيل في الأصل ليست كتبا سماوية منزلة لكي يأتي فيها ذكر نبي محدد، فالرجل كان يبحث عن مشروعية دينية لدى أصحاب الديانات الإبراهيمية الموجودة في المجال الديني و التاريخي و المعرفي الذي بدأ داخله دعوته، فاليهودية كانت منتشرة بكثرة في الجزيرة العربية لقرون قبل ظهور الإسلام، و حتى المسيحية أيضا كانت موجودة بعدة مذاهب و تيارات في مكة و المدينة.

لا التوراة أنزلت على ألواح و لا الإنجيل أنزل بوحي على عيسى أو حوارييه الذين كتبوه من بعده، تلك أساطير فصلناها في مقالات سابقة عن تأثيرات التراث الرافدي و المصري القديم على اليهودية و النصرانية.

للمزيد من التفاصيل أنظر الروابط أدناه لمقالاتي السابقة :

- هل الإنجيل كتاب منزل من السماء .. ؟؟http://ar.mideastyouth.com/?p=50677

- الديانات الإبراهيمية … سلسلة تاريخية من النسخ و اللصق : http://ar.mideastyouth.com/?p=50547

- الخلق الأولي بين الأديان الإبراهيمية و الأساطير الرافدية : http://ar.mideastyouth.com/?p=50660

- كتاب الموتى الفرعوني و أسطورة البعث من الموت و الحساب أمام الآلهة : http://ar.mideastyouth.com/?p=47790

مشكلة محمد الكبرى هي أنه جاء بدين جديد عند قوم ليس لديهم تاريخ معرفي أو لاهوتي أو ديني معروف غير اليهودية و المسيحية، فالعرب لم يظهر بينهم أنبياء و لا كتب مقدسة بلغتهم و هذه في حد ذاتها كانت سبة كبيرة يتعمد اليهود في مكة و المدينة إطلاقها في وجه العرب، بل كانوا يهددونهم بنبي يأتي بينهم و يكون ملكا على شعب اليهود و يعيد لهم مجدهم على باقي شعوب الأرض و كانوا يعتبرون العرب بمثابة “غوييم” لم يفضلهم الله بنبي و لا كتاب.

إنجيل توما إكتشف بشكل شبه كامل في مخطوطة بردي مع مخطوطات نجع حمادي عام 1945

إنجيل توما إكتشف بشكل شبه كامل في مخطوطة بردي مع مخطوطات نجع حمادي عام 1945

و من هنا كانت محاولات محمد المحمومة للحصول على تلك المشروعية الدينية سواء من المسيحيين أو اليهود، و محاولته الأولى تمثلت في دعوة بعض من أصحابه للهجرة إلى الحبشة عند النجاشي أصحمة بن أبجر، الملك الذي لا يظلم عنده أحد فقد كان يتوقع منه دعما عسكريا أو تحالفا سياسيا يسمح له بفرض سيطرته على الملأ المكي بالقوة، لكن المحاولة باءت بالفشل لكون النجاشي على ما يبدو لم يشأ فقدان علاقاته التجارية و تحالفاته مع سادة قريش.

أما المحاولة الثانية فقد كانت مع اليهود أو من سماهم في القرآن ببني إسرائيل، فبعد.هجرته للمدينة وجد.محمد أن لليهود فيها تواجدا قويا على المستوى الإقتصادي أولا،فهم أصحاب تجارة كبيرة و متشعبة تتوزع بين الفلاحة و التمور و صناعة و بيع السلاح التي لم يكن العرب يتقنونها حينها، إلى جانب إمتلاكهم لمزارع و أراضي شاسعة في المدينة و خارجها حول حصونهم، أما  على الجانب السياسي فقد كانت قبيلة بني قينقاع حليفة لقبيلة الخزرج بينما قبيلة بني النضير و بني قريظة حلفاء لقبيلة الأوس، و لأن محمدا قد كان ضيفا جديدا على يثرب فقد كان يعي ببراغماتيته الشديدة أن اليهود عنصر أساسي في المعادلة السياسية الجديدة التي أصبح يتحرك داخلها، كما كان  يعي أيضا أنه بحاجة لدعمهم في مواجهته مع قريش التي بات يهاجم قوافلها المتجهة من مكة إلى الشام شمالا و التي تعبر على طريق يثرب، و بالتالي فهو في حاجة لدعمهم المادي سواء بالمال أو بالسلاح، و لا عجب هنا أن نجد القرآن قد خصص لهم عشرات الآيات التي يتودد فيها إلى بني إسرائيل حيث وصف فيها رسلهم و أنبياءهم و ما أنزله الله إليهم في التوراة، و مدحهم بكونهم أهل إيمان و صلاح و تقوى حصهم الله بشرائعه قبل باقي الأمم و الشعوب، لكن مع ذلك ظل اليهود على موقفهم من محمد يرفضون التعامل معه على أساس كونه نبيا مرسلا من الله و بكتاب منزل بالوحي، فهم يرون أن النبوة فضيلة كبرىو مقدسة قد خصهم الله بها دونا عن باقي البشر و لم يعترفوا بعيسى المسيح الذي إعتبروه كاذبا و مدعيا فكيف يعترفون بمحمد بعده بأكثر من 6 قرون، و حينها إدعى محمد أنه مذكور عندهم بصفته و إسمه في التوراة أو العهد القديم، لكنهم حرفوا كتبهم لينكروا نبوته و يكذبوا على الله و يجحدوا دعوته لهم بالحق، و بعد هذه النقطة مباشرة جاءت دعوة محمد المباشرة ليهود بني القينقاع للدخول في الأسلام، حيث تذكر سيرة إبن هشام أنه بعد عودته من معركة بدر مزهوا بإنتصاره على قريش، جمع اليهود في سوق بني القينقاع فقال : ” يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا “، فأجابوه قائلين : ” يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس و أنك لم تلق مثلنا “،و قد كانت هاته الحادثة بمثابة الباب المفتوح للمواجهة المباشرة بين محمد و القبائل اليهودية الثلاث التي تستوطن يثرب و ضواحيها.

و قد تلتها معركة و حصار على حصون بني قينقاع إنتهت بطردهم من حصونهم و إجلاءهم عن يثرب تاركين بيوتهم و أراضيهم و أموالهم غنيمة للمسلمين، و لولا تدخل عبد الله بن أبي سلول الذي أجبر محمدا على إخلاء سبيلهم لكان مصيرهم مشابها لمصير بني قريضة، فقد حاصرهم محمد بجيشه بعد غزوة الأحزاب، بعد أن إتهمهم بالخيانة و التحالف مع قريش ضده، و إنتهى الحصار كما نعلم بتلك المذبحة البشعة التي أهلكتهم.

و ما إن مكنت السلطة لمحمد بفتح مكة و ضمن سيطرته على أغلب قبائل نجد و الحجاز، حتى أمر بإخراج من سماهم بالمشركين و النصارى و البهود من جزيرة العرب، و تلك كانت آخر وصاياه و هو على فراش الموت.

الرجل و ببساطة كبيرة كان يبحث عن المشروعية الدينية و السماوية ممن سبقوه من أتباع الديانات الإبراهيمية، و لذلك جاء إدعاءه بكون إسمه و صفته مذكورين في العهد القديم و الجديد، و هذا ما سوف نتطرق إليه في الجزء الثاني من هذا البحث.

مهدي بوعييد
28/07/2016