يفسر الإسلام خلق الأرض و السماء في عملية إلهية لم تتجاوز مدتها 6 أيام، خلق فيها الكوكب كما نعرفه بكل مكوناته، من نبات و حيوانات و جماد و بشر و ماء و أنهار و بحار و محيطات، مجرد عملية إعجازية أخرى لا تقل بساطة و لا سهولة عما يتخيله البشر عن قدرة الآلهة منذ الأزل.

ورد في صحيح مسلم ، الحديث رقم 6707 في الكتاب 39 ” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : ” أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي ، فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءَ ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَاتٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ” .

كما ورد في الآية 7 من سورة هود : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }.

و في الآية 30 من سورة الأنبياء : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }.

و في الآية 54 من سورة الأعراف : { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }.

قد يقول قائل وما الذي يدريك أن اليوم عند الله هو نفسه عندنا، بنفس المدة التي يعرفها البشر، في هذه النقطة بالذات يقول القرآن في الآية 4، 5، 6 من سورة السجدة : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.

في نقطة الخلق هاته تلتقي الديانات الإبراهيمية الثلاث، فالمسيحية و اليهودية أيضا تقر بأن الله قد خلق الأرض و السماء في 6 أيام، ثم إستراح في اليوم السابع و جعله مقدسا.

الألواح السبعة لملحمة إينوما إليش

الألواح السبعة لملحمة إينوما إليش

لكن بالنسبة للتاريخ البشري المكتوب، فهذا ليس أول ذكر للخلق الأولي، فقد سبقت الديانات الإبراهيمية أساطير و ملاحم عديدة كتبتها الحضارات القديمة و حاولت من خلالها تخيل نفسير ما لخلق العالم، نذكر من بينها ملحمة ” إينوما إليش – ENUMA ELISH ” البابلية، و هي مجموعة أساطير بابلية قديمة و موروثة عن أساطير سومرية أقدم بحيث تعود في أصلها ﻷكثر من 5000 سنة (3000 سنة قبل الميلاد)، و قد تم تجميعها في ملحمة واحدة وُجدت مدونة على أقراص طينية في منطقة نينوى شمال غرب العراق من طرف العالم الأركيولوجي البريطاني Austen Henry Layard في مكتبة الملك آشوربانيبال هو آخر كبار ملوك الإمبراطورية الآشورية (بالقرب من الموصل الحالية)، و الملحمة كتبت في شكل نص شعري مكون من حوالي 1000 سطر بالكتابة المسمارية على سبعة ألواح، لنقرأ معا ما كيف فسرت أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية حتى اليوم، مسألة الخلق الأولي للعالم و الكون :

” كان العالم مجرد فوضى تتمثل بغمر مائي و منها انبثقت الآلهة، ثم بدأت هذه الآلهة الجديدة بالدعوة إلى تنظيم العالم فغضبت الفوضى المائية على هذا الإتفاق (الفوضى المائية تمثلها الآلهة “تيامات – Tiamat” أو المياه المالحة بينما يمثل زوجها “أبسو – Apsu” المياه العذبة”)، و بعد صراع أدى لمقتل أبسو بدأت الآلهة تيامات معركة الانتقام لمقتل زوجها، كان التقدم في هاته المعركة للإلهة تيامات حتى جاء الإله “مردوخ – Marduk” حفيد أبسو و تيامات نفسهما و أصبح قائد التمرد بقوته و إمكانياته التي لا تشبه أيا من الآلهة الأخرى، و قام بشق تيامات “المياه المالحة” إلى نصفين، فجعل نصفها السفلي هو الأرض و العلوي هو السماء”

طه باقر : مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة صفحة 453.

شجرة الآلهة البابلية

شجرة الآلهة البابلية

و لنرى  ما الذي يقوله العهد القديم في قصة الخلق الأولي للعالم :

تروي التوراة قصة الخلق في الإصحاحين الأول و الثاني من سفر التكوين، و تتألف قصة الخلق من ثمانية أوامر إلهية نفذت في ستة أيام و تبعها يوم سابع للراحة، نقرأ فيها ما يلي:

{ و كانت الأرض خربة و خالية، و على وجه الغمر ظلمة، و روح الله يرف على وجه المياه، و قال الله : ليكن جلد في وسط المياه، و ليكن فاصلا بين مياه و مياه، فعمل الله الجلد، و فصل بين المياه التي تحت الجلد و التي فوق الجلد، و كان كذلك، و دعا الله الجلد سماء }

ثم لنقرأ الآن ما الذي يقوله النص القرآني في قصة الخلق الأولي :

{ و هو الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء } سورة هود، الآية 7

{ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما } سورة الأنبياء، الآية 30

و يقول الطبري في تفسيره لتلك الآيات : ( عنى بذلك أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء ).

مشهد تخيلي للسبي البابلي لليهود على يد الملك العظيم نبوخذ نصر

مشهد تخيلي للسبي البابلي لليهود على يد الملك العظيم نبوخذ نصر

الأساطير السومرية و البابلية القديمة إذن قد سبقت الأديان الإبراهيمية بآلاف السنين في ذكر تفاصيل محددة عن كيفية رؤيتها لمسألة الخلق الأولي، في مجملها عبارة عن صراع و حروب بين الآلهة المتعددة، انتهى بخلق الأرض و السماء و الإنسان فيما بعد، و ما أتت به الكتب المقدسة  للديانات الإبراهيمية فيما بعد من تفسيرات لنفس المسألة هو سيرورة متواصلة لما كان موجوداً من معارف بشرية حينها، هاته السيرورة قد بدأت مع كتابة أحبار اليهود لنصوص التوراة إبان فترة سبيهم في بابل من طرف الملك العظيم نبوخذ نصر الذي حاصر و دمر أورشليم و هدم المعبد الأول بين عامي 589 و 587 قبل الميلاد، و في هذا السبي أخذ معه نخبة القبايل اليهودية كعبيد، و هناك كتبت التوراة و جاءت مشبعة حد التخمة بروايات و أساطير و تفاصيل المرويات التي كان يتناقلها كهنة و رهبان عشتار و مردوخ و بعل و إنانا و هي كلها آلهة بلاد الرافدين التي توارثت عبادتها و تقديسها عدة حضارات مرت من تلك الأرض، و بقيت أساطيرها منتشرة بين شعوب المنطقة منذ عهد السومريين.

لوحة تمثل الإله شمش أو شماش وهو الاسم الذي كان يطلق على إله الشمس عند البابليين و هو يقدم قرص الشمس

لوحة تمثل الإله شمش أو شماش وهو الاسم الذي كان يطلق على إله الشمس عند البابليين و هو يقدم قرص الشمس

قصة الخلق التي وضعت في التوراة ليست إلا إعادة لمجموعة من تلك الأساطير البابلية المتناقلة بين كهنة الإله “مردوخ” في بابل آنذاك، و بما أن اليهودية تعتبر هي المصدر الرئيسي للديانات الإبراهيمية، فالمسيحية قد أخذت عنها نفس التفسير و السيرورة نفسها قد تواصلت فيما بعد مع الإسلام.

الأديان الإبراهيمية عامة في رؤيتها للكون و العالم و الإنسان، لا تملك تفسيراً منطقياً أو عقلانيا مقبولاً لمسألة الخلق الأولي، و هي لم تأت بشيء جديد أو مختلف في هاته النقطة رغم الإختلافات الطفيفة فيما بينها، إنما أعادت اجترار نفس الأساطير القديمة كما عرفها و توارثها البشر فيما بينهم في شكل مرويات شفهية و ملاحم أسطورية، أو أناشيد دينية يتناقلها الكهنة في المعابد خلال طقوسهم أو تجتمع حولها القبائل و ترويها فيما بينها تخليدا لتراث غابر يتناقل عبر القرون و الأزمان، و مع كل حضارة جديدة يتم إعادة نظمها و تنميقها و إدخال آلهة و شخوص جديدة عليها، قبل أن يتم إعتمادها كتفسير مقدس للعالم منذ بدء الخليقة، بعد أن أضفت على الآلهة المتعددة (يتجاوز عدد الآلهة في بلد الرافدين حينذاك 4000 إله)، صفة الوحدانية، أي الإله الواحد.

الأديان الإبراهيمية ليست إلا مرحلة معينة من مراحل تطور الوعي البشري عبر التاريخ بل يمكن إعتبارها مرحلة طفولة الوعي البشري، بدءا من عبادة سيد القبيلة ( The Alpha Male في المجتمعات الحيوانية التي تعيش في قطعان تعتمد تراتبية اجتماعية معينة)، ثم مروراً عبر الفترة التي يعبد فيها الطوطم كتمثيل لروح سيد القبيلة بعد موته و الذي تنسج حول شخصيته أساطير تعبر عن البطولة و القوة و الشجاعة، إلى مرحلة الخوف من الظواهر الطبيعية الغير مفهومة و التي نتجت عنها عبادة الشمس و القمر و الرياح و البراكين و النار و هي مرحلة عجز فيها الوعي البشري عن إستيعاب ماهية هذه الظواهر و ميكانيزماتها، لكن هذا لم يمنع البشر من مراقبة و تتبع هاته الظواهر بغية تفسيرها، مثل حركة الشمس و القمر و الأجرام السماوية و تتابع الفصول، و هاته المرحلة بدأت مع تحقق أول شروط الإستقرار في مناطق جغرافية محددة حول ضفاف الأنهار و البحيرات و مع بداية الزراعة و تربية الحيوانات الأليفة، و قد ساهم هذا الإستقرار و توفر وسائل العيش بشكل أفضل نسبيا من مرحلة الترحال التي كان يعتمد فيها الإنسان على الصيد و جني الثمار، في جعل الإنسان يقترب أكثر مع الطبيعة و يندمج معها تبعا لإرتباطه بتغيرات النناخ التي تؤثر في الزراعة و المحاصيل التي بات يزرعها و يجنيها في أوقات محددة، و خلال هذه المرحلة التي يحددها التاريخ في فترة 3500 سنة قبل الميلاد، تجسد الإله في صفات معينة و مظهر فيزيائي محدد على شكل أصنام تمثل الآلهة و نصبغ عليها قصص البطولة و الصراع الأزلي فيما بينها، و انتهاء بمرحلة الغيبيات التي توحدت فيها أساطير الآلهة القديمة في إله واحد له السلطة المطلقة على البشر والكون ككل، لكنه و بكل غرابة، يتشابه في كل الصفات مع الآلهة العديدة التي سبقته ﻵلاف السنين و تسلط كهنتها بنفس المنطق الغيبي و الخرافي على بني البشر، تماماً كما يحدث اليوم.

و ما جعل هذه الأساطير تصبح مشتركة بين الشعوب، هو تلك الحركة الدائمة لدى المجتمعات البشرية، فرغم إستقرار البشر في مستوطنات محددة تحولت فيما بعد لمدن ذات كثافة سكانية مرتفعة (مثل أور في العراق و موهنجو دارو و هارابا في باكستان و دواركا في جنوب شبه القارة الهندية)، فقد كانت الحاجة للتجارة و تبادل البضائع هي الدافع الرئيسي لتحرك البشر بين هاته المحاور التي تحولت لمراكز تجارية كبيرة،  و هذا ما ساهم في إنتشار الأساطير و المرويات بين الحضارات، فتلك الثقافة كانت بالأساس معرفة شفهية غير مكتوبة، يتناقلها البشر فيما بينهم، و مع ظهور الكتابة بين 5000 و 3500 سنة قبل الميلاد، تحولت تلك المرويات الشفهية إلى ملاحم مكتوبة على الألواح الطينية كما رأينا مع ملحمة إينوما إليش.

هاته الملاحم نفسها شكلت الأساس لأدبيات الأديان الإبراهيمية التي جاءت فيما بعد، و ما تعتبره هاته الأديان وحيا منزلا من السماء على البشر، هو تطور طبيعي لما كانت تعتبره الشعوب القديمة قصصا للآلهة النتعددة التي كانت تعبدها، فلا مردوخ و لا الله كلم البشر، لكنه سعي الإنسان الطبيعي لتفسير ميكانيزمات العالم و الكون من حوله هو ما أنتج هاته المعرفة في شكلها القديم الحالي، و الذي لا زال يحتل مكانه في الوعي البشري.

مهدي بوعبيد
03/07/2016