لا يستطيع أحد إنكار هالة القداسة الضخمة التي تحيط بالقرآن ككتاب يقدسه مئات الملايين من المسلمين منذ أكثر من 1400 سنة، و هي قداسة لن نحاول الدخول في أسبابها و تفاصيلها التي لا تخفى على الباحثين المتخصصين، لكن عندما تتوفر الجرأة و الإرادة للتعامل مع النص بتجرد و موضوعية، لا تملك إلا أن تعترف بأن الكثير من آياته تفقد هالة القداسة تلك، فالقراءة المتجردة تضعك أمام كلمات و جمل تحمل الكثير من المعاني التي تجعلها أقرب للمنطق البشري أكثر من قربها للمفهوم الإلهي، ذلك المفهوم الذي من المفترض أنه منزه عن كل ما يرتبط بالحاجات الدنيوية التافهة.

القرآن و الجزية

لنأخذ على سبيل المثال ما يسمى بآية الجزية، إنها الآية 28 و 29 من سورة التوبة، و هي تقول :

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) “

الآية الأولى تتضمن أمرا واضحا بطرد المشركين من أرض المسجد الحرام و منعهم من دخولها، و كلنا نعلم أن التأثير المباشر لهكذا أمر هو توقف قوافل التجارة عن دخول مكة كما كانت تفعل قبل ظهور الإسلام، مع ما ينتج عن ذلك من أزمة إقتصادية تؤثر على معيشة الناس بعد إنحسار التجارة القادمة من باقي مدن و حواضر الجزيرة العربية التي لم تدخل الإسلام بعد و بالتالي ما زالت في معظمها على الوثنية التي يسميها الإسلام شركا، و لهذا نجد بقية الآية تتحدث عن كون الله سوف يغني المسلمين إن هم خافوا “العيلة” أي الفقر و الفاقة بانقطاع تجارة المشركين عنهم. ثم يستمر الأمر المباشر في الآية التي تليها، فنجد الله يأمر المسلمين بقتال الذين لا يؤمنون بمجموعة من الأحكام التي يحددها في الإيمان بالله و اليوم الآخر بما يستتبعه من حساب و عقاب و ثواب، و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله، و لا يدينون بالدين الحق، أي الإسلام، ثم ينهي الأمر بتحديد المعنيين به و هم الذين أوتوا الكتاب، أي اليهود والنصارَى، و إختيار كلمة الإتيان هنا ليس عشوائيا، فهو كناية عن كون الله قد حدد و بين لهم هذه الأحكام و الشرائع في الكتب التي أنزلها عليهم من قبل، أي التوراة و الإنجيل، لكنهم إستكبروا و عاندوا و جحدوا الحق اﻹلهي و خاصة ما يقوله محمد من أن إسمه و رسالته و أمته مذكورون في ما سبق عندهم من الكتب المقدسة، و هذا ما يثبت عليهم الحجة في الكفر و الإنكار و يوضح جريمتهم التي جعلت الله يأمر المسلمين بقتالهم في القرآن.

دفع الجزية يجب أن يتم على الذلة و الصغار

دفع الجزية يجب أن يتم على الذلة و الصغار

لكن نهاية الآية الثانية هنا تضعنا أمام غاية أخرى ترتبط بالأمر الأول، فمنع المشركين من دخول الأراضي المقدسة عند المسلمين سوف يمنع عنهم سبل التجارة مما سوف يتسبب بفقرهم، و غاية الأمر بالقتال في الآية الثانية هي تنفيذ للوعد الإلهي السابق ذكره بالتعويض عن الفقر و الحاجة، فنجد الأمر بالقتال ينتهي بفرض الجزية على أهل الكتاب، كخيار ثاني إلى جانب المواجهة و السيف، و لا تكتفي الآية بطرح الجزية فحسب بل توضح حتى الوضع الذي يجب تأديتها عليه فتشترط الدفع الذي يترافق مع الذلة و الصغار، و هي قمة المهانة بالنسبة لأهل الكتاب، و ذلك في صورة واضحة من صور العقاب الدنيوي الذي فرضه الله عليهم لكونهم رفضوا نبوة محمد و كفروا بدعوته و كتابه و أحكامه.

طيب ما هي الجزية إذن : ذكر الرزاي أيضا في تفسيره للآية 29 من سورة التوبة : ” الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده، وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه ” أي أنها قدر من  المال يدفعه الكتابي لإمام المسلمين، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله، و لهذا يسمى دافع الجزية بالذمي فالقدر الذي يدفعه من المال هو ما يحفظ له حقه في الحياة و هو رافض لشريعة محمد و دينه و متى رفض دفعه يصبح دمه و ماله و عرضه و كل ما يملكه حلال للمسلمين، فالعهد هنا قائم بدفع الجزية و ليس بمفهوم التسامح و القبول بالآخر رغم إختلاف معتقده الديني. لكن ما يثير الحيرة في هذه المسألة هو كوننا أمام نص يفترض أنه إلهي، مقدس و منزل من اللوح المحفوظ من فوق سبع سماوات، فهذا الحكم ليس إجتهاد فقهاء و لا إجماع علماء بل هو كلام الله المرسل إلى نبيه، نعم الله خالق كل شيء الكون و الأرض و السبع سماوات، الله مطلق القوة و الرحمة و العلم بكل شيء، بما كان و سيكون، لكنه مع ذلك يفرض على البشر الذين خلقهم و أرسل لهم أنبياء و رسل بأديان سماوية مختلفة، أن يختاروا بين ثلاث، ترك دينهم و إتباع دين جديد جاء به رجل من أعماق الصحراء يقول بأنه نبي مرسل بالدين الحق، أي النسخة النهائية و الوحيدة التي قرر أن تتبعها البشرية كلها بدون إستثناء، أو أن يواجهوا القتال و السيف مع ما يتبع ذلك من قتل و نهب للأموال و الأملاك و سبي للنساء و الذرية، أو أن يدفعوا الجزية لكي يحتفظوا بحياتهم و القليل جدا من كرامتهم، و هنا يصعب جدا على على العقل أن يتقبل أن خالق الكون الذي إرتضى للناس دينا جديدا لن يقبل منهم غيره يوم القيامة، يفضل أن يتركهم على أديانهم الباطلة كما هم و يأمر نبيه و أتباعه بأن يأخذوا منهم مالا عوضا عن ذلك، أي إله هذا الذي يقبل تعويضا ماديا عن الإيمان به و بسلطته المطلقة على مخلوقاته، أي إله هذا الذي يشرع إتاوة على البشر لقاء حقهم في الحياة التي منحها لهم، أي إله هذا الذي يشرع أحكاما دينية هي أقرب لمعاملات المافيا منها لتلك القداسة الإلهية التي يفترضها الدين بمفاهيم مثل التوحيد و التسليم و الرضى بقضاء و قدر الخالق مطلق القوة و الرحمة و العلم … ؟؟!!!!

4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ

4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ

لكن مهلا، لنأخذ القصة من جانب آخر أكثر واقعية و موضوعية، بل لنأخذ النص على حقيقته كما هو، لا كما يراه المؤمنون، فقد منع المشركون من دخول مكة و المدينة، و كما قلنا قبل ذلك فهذا يعني وضعا جديدا تنقطع فيه قوافل التجارة و سبل البيع و الشراء، مع ما يعنيه ذلك من فقر و فاقة، و النص هنا ليس إلا تأسيسا لوضع إقتصادي جديد يسمح للمسلمين بالحصول على مصادر دخل جديدة تعوضهم عما فقدوه بإنقطاع قوافل التجارة عن مدنهم، و هذا المصدر ليس إلا إتباعا لسنة القبائل العربية التي دأبت عليها من قبل ظهور الإسلام، و هي الغزو و ما يرافقه عادة من سبي و سلب و نهب في حق المنهزمين، و الفارق الوحيد هنا هو أن المسلمين قد بات من حقهم حتى بعد الغزو و الغنيمة، أن يفرضوا إتاوة أبدية و دائمة على هؤلاء المنهزمين؛ بشرعية إلهية مطلقة، هو إذن نهب و سلب منظم و مشروع دينيا، لا يعاقب الله عليه، بل يأمر به و يحض عليه المؤمنين و يصرح لهم به على أنه حلال لا شبهة حوله.

و قد تلى نزول هذه الآية مباشرة غزوة تبوك في رجب من العام 9 للهجرة، و هي آخر الغزوات التي خاضها محمد قبل وفاته، حيث هاجم أراض تقع تحت سلطة الإمبراطورية البيزنطية في شمال الجزيرة العربية، و مع أن المعركة النهائية لم تقع فعليا، فقد كان الدافع الرئيسي وراءها هو الحصول على مداخيل مادية في عام من القحط و الجذب الذي أصاب الجزيرة العربية و ترافق مع فقر شديد عجز معه الرسول عن جمع ما يكفي من المال لتجهيز جيشه بما يلزمه من سلاح و دواب و مؤن. و يقول  ابن كثير في تفسيره : «أن الله سبحانه لما أنزل قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا”، قالت قريش ، كما ورد عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم، وكان ذلك بعد فتح مكة: “لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله عن ذلك، بالأمر بقتال أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.» ويرى ابن كثير أن سبب الغزوة هو استجابة طبيعية لفريضة الجهاد؛ ولذلك عزم الرسول محمد قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه، جاء في سورة التوبة: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ  “.

و قد إختاف العلماء في تحديد مقدار الجزية لأن النص لم يحدده، و يقول القرطبي في تفسيره :

” لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم. وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم، فقال عطاء بن أبي رباح: لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صولحوا عليه. وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري، إلا أن الطبري قال: أقله دينار وأكثره لا حد له. واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية. وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية. قال الشافعي: وهو المبين عن الله تعالى مراده. وهو قول أبي ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا. لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره. وقد قيل: إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الامام. وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى. قال أبو عمر: ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما. وإلى هذا رجع مالك.”

و في تفسيرات أخرى تكون الجزية على نوعين إما صلحية أو عنوية، و الصلحية هي تلك التي تضرب على من منعوا المسلمين من الإستيلاء بالقتال على بلدانهم و أنفسهم و أهاليهم و أموالهم، و تحدد قيمتها بما يتفق عليه الطرفان عند الصلح، و أقلها دينار و لا يحدد لها سقف أعلى إذ يبقى تحديد القدر حكرا على الإمام أو الخليفة. أما العنوية فهي تلك التي تفرض على أهالي البلدان التي فتحت عنوة بالقتال و تحت السيف، و تحدد بأربعة دنانير ذهبية على أهل الذهب، أي أغنياء القوم و أربعون درهما فضيا على من هم أقل منهم منزلة، و لنعقد مقارنة بسيطة مع قيمة الذهب اليوم، فقيمة الدينار الذهبي محددة في 4،25 غراما من الذهب، أي أن 4 دنانير هي ما يعادل اليوم 677,45 دولارا في السنة، تلك هي قيمة التعويض عن الإيمان بالإسلام اليوم.

الجزية

الجزية

الآن و بعد كل ما سبق ما تفصيله أعلاه، ألا يبدو النص أقرب لرغبات و هوى و إرادة البشر منه لإرادة الخالق، فلا أرى الخالق إلا منزها عن أمور الدنيا من أموال و أملاك و ذهب و فضة، فلا يليق به النزول لهذا المستوى الذي يبقى مجالا بشريا محضا يتصارع حوله البشر كما هي عادتهم منذ الأزل … ؟؟!!!!

في الجزء الثاني من هذا المقال، سوف نعود لتفاصيل أكثر أهمية عن موضوع الجزية، لنوضح طريقة و حيثيات و ظروف أداءها و نسرد تفاصيل دقيقة في هذا الباب من تاريخ الغزو الإسلامي للشعوب المجاورة و ما فرض على أهلها، و سيكون من بينها شرح و تفصيل لما يسمى بالعهدة العمرية، و هي بمثابة تأصيل ثابت في الإسلام لمسألة الجزية و كيفية التعامل مع أهل الذمة ممن أوتوا الكتاب.

مهدي بوعبيد

08/04/2016