نحن نعيش في بُعدٍ بيننا و بين الواقع يسمى التَّمَثل(representation) ، هذا البعد هو مجال معرفتنا. إلى ذلك ذهب كانط في تأصله لنظرية المعرفة خاصته. و إن كان الحديث الكانطي عن التمثل أمرا تجريديا و مبهمًا، فإن العلوم التي تُعنى بالدماغ بالبشري اليوم يمكن أن تعطي تعريفا محددا لهذا المفهوم.

يُعرف مُختصو علم النفس المعرفي ( cognitive psychology) التمثل باعتباره نتيجةً للصور الذهنية( Mental image) التي يصنعها الدماغ لإستحضار جسم فيزيائي، وضعية، فكرة أو مخيالٍ ما… الخ. أي أنه تلك العملية الذهنية التي يقوم بها الدماغ لإعادة تكوين ما يغيب مباشرة على الحواس. هذه القدرة الاستثنائية على تركيب الصور الذهنية تُعتبر إحدى المميزة النوعية للدماغ البشري، رغم أن الانثروبولوجيين و البيولوجيين لا يتفقون كثيرا في هذه النقط. لكن لا يهمنا كثيرا، في هذا المستوى، الدخول في ذلك النقاش لأننا سنهتم بالتمثل في سياق العلوم الاجتماعية فقط. ولكن قبل ذلك، سنقوم بعرض مقتضب للتطور التاريخي لهذا المفهوم.

يعتبر س.موسكوفيشي ( S.Moscovici)،و هو عالم نفس إجتماعي، أن أول مع صاغ مفهوم التمثل في العلوم الاجتماعية هو إ. دوركيم ( E. Durkheim)، رغم أنه لا ينكر فضل كلٍ من ج.سيمل (G. Simmel) و م.فيبر (M. Wiber) بدايةً في تكوِينالارهاصات الأولى لهذا المفهوم.

يُعرف التمثل في هذا السياق إذا باعتباره ذلك الكل الذهني المتكون من معرفة(علم) ، دين، فضاء، زمان منظومة قيمة الخ. و يتماهى هذا التعريف في عدة مستويات مع مفهوم النسق، المنظومة الفكرية أو العقل الجماعي لمجموعة ما. يُميز دوركيم بين نمطين من التمثل؛ التمثلات الجماعية (collective representation) و هي نتيجة التجربة الجماعية و ما ينتجه المخيال الجماعي في تفاعله مع فضاء نشاط المجموعة. في المقابل نجد التمثلات الفردية (individual representation) و التي تكون حصيلة التجربة الفردية و ما ينتهى إليه تأويل الفرد لوجوده في المجتمع. طبعا، يعطي دوركيم الأسبقية على التمثلات الجماعية، كونها تسبب ضغطا أكبر على الفرد و تجعله رغم هامش الخصوصية الذي يطوره ينمحي وسط السيل الاجتماعي. تُمكن دراسة التمثلات حسب دوركيم من فهم الظواهر الاجتماعي و المنظومات المعيارية التي تؤسس للفعل الاجتماعي.

ظلّ التعريف الدوركيم طاغيا على بارديغم العلوم الاجتماعية حتى ظهور أعمال ج. بيجيه (J. Piaget) صاحب الإيبستمولوجية التركيبية. حيث ساهم بتتبعه للنمو الذهني للطفل، و دراسة المِكانزمات الذهنية التي تعمل على إنتاج التمثلات، في صياغة قطيعة معرفية مع النموذج السابق ذكره.

إذا يبين بيجيه أنه رغم تَلقِي الطفل للتمثلات الجماعية بكل ثقلها و إكراهاتها ، فإنه مع الوقت يُطور إستقلالية سلوكية ناتجة عن تمثلات خاصة تطورت بالإحتكاك مع أفراد آخرين. أي يتطور الفرد من طاعة الطفل إلى تعاون البالغ.

بالإضافة إلى هذه الصياغة المعرفية التي قام بها بيجيه، يُرجع موسكوفيشي التغيرات النوعية التي طرأت على مفهوم التمثل إلى التطور الهائل الذي لَحِق بالإمكانات التكنولوجية و ما ساهمت بيهِ في نشر المعلومة ( بغض النظر عن الرهانات السياسية) و توفير سبل إتصال جديد. كل هذا جعل من التمثل كموضوع معرفة، و كصياغة مفهومة، ذو ديناميكية جدية.

أدت إذًا هذه المعطيات الجديدة إلى تَغيُّر هذا المفهوم أولا على المستوى الإصلاحي، حيث صارت التسمية تمثلات إجتماعية ( social representation) بعد أن سُمِّيت تمثلات جماعية ( collective representation). ثم ثاني على المستوى المفهومي، فغَدَونَا نَعنِي بالتمثلات الاجتماعية تلك الحركة التفاعلية بين ما يجمع تمثلات الفرد خاصةً و تمثلات مجموعة الأفراد عامةً؛ اي تمّ التسليم بأن التمثلات الجماعية أيضا عنصر ديناميكية و مُتحرك يُفعل فيها عن طريق تفاعلات الأفراد. و هذا ما يؤدي إلى الإقرار بأن التمثلات الجماعية موضوع فاعل و مفعول بيه في الآن نفسه. و عليه، يُنزع عنها بعدها الثبوتيو المتحجر المتأتي من التصور الكلاسيكي كما أسلفنا. هذه المفهوم الجديد يسمح بدراسة نمط تفكير الأفراد و الجماعات في نفس الوقت دون تقزيم دور عنصر على حساب الآخر. كما يُمكِّن أيضا من مُقاربة مجتمع اليوم الذي لا يهم فيه البعد الثابت و القار بقدر ما يهم البعد المتحول و المتغير.

بعد السير على خطى تطور المفهوم، نخلص إذا إلى تعريفٍ أكثر إتزانا و وضوحا؛ التمثلات هي صناعة الذهن الإنساني الذي يحاول إعادة تكوين محيطه في صورة مركبة، حتى يتمكن من الفعل فيه. و هي ذلك النسيج الرمزي بين الفرد أو الجماعة و فضائها المُدرك. ذلك النسق الفردي أو الجماعي من الأفكار، يقوم بدور الرابط بين المُدرك (percept) و المفهوم ( concept). بهذا المعنى يكون في الآن عينه صانعة و نتيجة. يترسخ، يتحول و يتغير عن طريق التفاعل بين الفكِر و الأفعال.

نُظيف تعريف موسكوفيشي إلى ما سبق أيضا؛«بفضل التمثلات يصنع الشخص لنفسه نماذج تفسيرية، تأويلية، و قواعد سلوكية تُعطي له معنًا و دلالة للعالم المُحيط، و تمكنه من التصرف فيه».

الآن، و بعد أن زال اللبس نسبيا عن هذا المفهوم، دَعنا نبتعد قليلا عن الأمور النظرية و لنأخذ لنَا مثالاً بسيطًا عمّا نتحدث عنه منذ بعض الوقت.

عندما أذكر مثلا ” النظام الشمسي ” فإن أول صورة يمكن أن تبادر الأذهان هي تلك التي تكون الشمس منتصفها مع مجموعة الكواكب المعلوم التي تدور حولها. حسنا، هذا بكل بساطة يسمى تمثلاً للنظام الشمسي و يعرف بالتمثل الهيلومركزي (Heliocentric) و هو أحد أهم ركائز النموذج العلمي حتى القرن ال 19 عشر.

تَمثَل الإنسان كونه في ثلاث نماذج أساسية، أولا النموذج الجيومركزي (Geocentric). أي أنه في العصر العتيق و العصر الوسيط، عندما يتحدث البشر بينهم أو عندما يستحضرون الكوزموس فإنهم يُصوّرون الأرض بإعتبارها مركزا. و هذا التمثل كان يُبرر نمطًا سلوكيًا معينًا. ثانيا، النموذج الهيلومركزي كما سبق و ذكرنا، و هو النموذج الذي أحدثت الثورة الكوبرنيكية شرارته الأولى. تم بدايةً رفض هذا التمثل، لأنه يلغي الأولى و ما ينتجه من تصور مجتمعي كامل. ثم ثالثا، النموذج المعاصر الذي ساهمت المشاهدات الرادوفضاذية (Radio astronomy) في تكوينه.

تُثير الثورات العلمية تغيرات جذرية في التمثلات التي يحملها الناس عن عالمهم، و لا فرق جذري بين شعبين، سوا في طريقة تمثل العالم حسب ل.ليفي-بريل(l. Lévy-Bruhl). حيث إستنتج من دراسته الأنثروبولوجية أن الفرق الجوهري بين الشعوب ” البدائية ” و الشعوب ” المتقدمة ”هو فرق في طريقة تمثل القوانين الطبيعية فقط. ففحين أن المجتمعات ” المتقدم ” تُصوِر تلك القوانين بطريقة ميكانيكية، فإن المجتمعات ” البدائية ” تُصوِرها بطريقة مِخيالية و سحرية. إن الاختلاف في تمثل الواقع هو ما يُحدث أنماطًا فكريةً و سلوكيةً مختلفةً. عليه، تتشابه التمثلات الإنسانية في بنيته و صوريتها و إن إختلفت في المحتوى.

فمالذي تقصده بهذا؟

 

يتبع..