السبت 6 مارس .. لقاء الوداع .. عزاء عمتي الزهرة .. عن عمر ناهز التسعين .. رحمها الله .. بعد صلاة المغرب .. باحة مسجد الظهرة طرابلس .. عمي .. آه يوسفو .. اهلين .. متى وصلتم .. هذا المساء .. قدمنا برا .. ورفيقي يوسف .. عانقت يده يدي طويلا .. وانتحينا جانبا ثلاثتنا .. حواديث عن الاهل .. وسبها .. والزيغن واحتنا .. و فزان .. يوسف الاخر ابن اختي .. وملحة الوداع : ( بكرة يا عمي مروحين .. اي توصية ؟ ) .
– سلامتكم .. ولكن لما العجلة ؟ .. 800 كم .. وقضاء سعات محدودة بطرابلس .. والعودة في اليوم التالي .. ارق المسافة .. وغول الطريق .. وتهتمات .. وبوابات .. ابقوا ليوم او يومين ؟
– ( العزاء .. وعزينا .. وربحنا شوفتكم .. سماح عمو .. الصبح راجعين لسبها ) ..
– سلامنا للجميع .. جدد مصافحتي .. وتوارى .
عمتي الزهرة رحلت عن دنيانا ولم يتحقق لها حلم طاردها لدهر طويل .. منذ عام 1956 غاب شقيقها .. غادر نحو الجزائر .. كانت تتأمل ان تكتحل عيناها برؤيته قبل الممات .

وفي المسعى .. رسالة الى معالي القنصل الجزائري بسبها .. سلاما واحتراما .. أود أن أعرض أمامكم معضلتي .. فقد تقطعت بي الأسباب نحو إدراك أخي (محمد .. ) الذي التحق بصفوف جبهة التحرير الوطني الجزائري عام (1956 م ) ، والذي لازالت محفورة في الذاكرة تلك العبارة التي اختتم بها رسالته الأخيرة للأسرة . يقول فيها :” يا أبى ويا أمي أريدكم أن تكونوا راضين عني ، دنيا وآخرة ، أأسف جدا أنني لا استطيع أن اسمع عنكم أي شيء ، أما أنتم فلا بد أن تسمعوا عني شيئا ولو طال الزمن ” .. والآن وقد طال الزمن ، وبلغت من الكبر عتيا ، لم تنطفي حيرتي ولهفتي علي أخي شقيقي بعد ، كيف هو ؟ وأين هو ؟ وما هي أخباره ؟ ما إذا كان حيا أم ميتا ؟ ما إذا كان له أبناء ؟ وكيف انتهي به المطاف ؟ . أملي في كل إخواننا من أهل الجزائر الأشقاء مؤازرتي بالبحث والتقصي حول مصيره ، عسي أن تجمعني به الأقدار ، أو أن اسمع عنه أي شيء كان ، ذلك فضل من الله ولمساعيكم الأجر والثواب ) .

يوسف ابن اخي .. قبل اشهر قليلة احتفلنا به .. يوم نيله اجازة معهد النفط .. طرابلس .. حضرت وأعمامه .. والأبناء .. احتفالية التخرج بمقر المعهد .. التقطنا الصور .. بباحة المعهد .
مساء امس .. السبت 6 ابريل .. شقيقي الاكبر من واحتي الزيغن .. بالجنوب .. على الهاتف .. قبل قليل .. الساعة الخامسة والربع هذا المساء .. يوسف رحل .. رصاصة غادرة .. اغتالته .. حي الثانوية سبها .. كان في طريق عودته من صلاة العصر .. المنزل على بعد خطوات عن المسجد .. كالعادة .. صحبة والده .. اخي الاكبر .. تلاها وقفة يوسف المعتادة ورفاقه ابناء الحي .. ناصية الشارع .. المصلين كل في طريق العودة لمنزلة .. هذا راجلا .. وأخر يمتطي مركبته .. في الجوار .. سيارة تيوتا لبوة .. اتم مالكها صلاته .. وما ان هم بفتح الباب .. سيارة مترصدة على مقربة منه .. تمطر صدره ورأسه وجسده .. وحيث هو .. وابل من رصاص منهمر .. تدفق كريح عاصف .. وسيل جارف .. التهم كل شيء .. وكأنه رصاص من نوع اخر .. لم يكتفي بتمزيق جسد واحد .. ما ان يجهز عليه .. يخترق جدار اللبوة .. ويبحث عن مستقر .. اخر .. ليمزقه .. حوائط الجدران التهبت .. وما لم تحرق ناره الجدران .. اشفى غليله بجسد يوسف .. رحل يوسف مضرجا بالدماء .. ورحل الشاب مهند صاحب اللبوة اشلاء .
محمد .. ابن اخي الآخر .. رفيقه وصديق يوسف .. هو الان بالمستشفى .. جرح غائر بالفخذ .. واقل منه بالفخذ الاخر .. وشظايا حفت الجبهة .. ورصاصة اخترقت البطن واستقرت .. الطبيب يرى ان لا خوف من بقائها مؤقتا .. ينسى ألالام جسده .. فقد يوسف .. وهول اللحظة .. لا يفارقه .
يوسف الذي حلم مهندسا نفطيا .. رحل مبكرا .. لحظة الاجازة .. لم يتحقق حلمة .. وعمتي الزهرة انتظرت حتى سن الثمانون .. ليتحقق حلمها .. ولم يتحقق .
الوقت الآن متأخر .. غرب النهار .. ما ادراك والسفر بالليل .. لنؤجل سفرنا حتى الصباح .. اغمض عيني .. احبس انفاسي .. تغالبني دمعة .. مضى الليل ثقيلا .. قلق مضجعي ، وطال ليلي ، وقل انسي ، واشتدت وحشتي ، وبعد سروري .. وكأن الدهر ناصبني وقذف بي فجاج الارض ومخارمها .. ابت غفوة مداهمة الجفون .. الساعة الثامنة صباحا .. موعد بدء السير .. طريق العزيزية غريان .. ( غير آمن ) .. لوحة ارشادية رصيف الطريق .. طريق السبيعة .. غريان .. البديل .. والتفافة طويلة حول العاصمة .. بحثا عن مسلك للخروج نحو فزان .
السبيعة .. بن غيلان .. القواسم .. غريان .. الاصابعة .. توقفنا للتزود بالوقود .. ركن محطة الوقود المنعزلة .. شيخ مسن يدير محل تجاري للمواد الغذائية .. ولوازم الطريق الطويل الذي ينتظرك .. وبوابات .. ومطبات .. عبرنا واحة مزدة .. واحة ابو الغرب .. وعند واحة القريات .. اعدنا التزود بالوقود احتياطا .. كنا عند توقعنا .. في واحة الشويرف نقطة التزود القادمة .. مسافة 100 كم .. ازدحام خفيف بالمحطة .. سيارات تنتظر دورها .. يلزمنا البقاء .. نصف الساعة او اكثر .. امامنا 300 كم .. لنصل نقطة التزود القادمة .. واحة براك .. البنزين كاف .. واصلنا سيرنا .. محطة الغيلانية 120 كم .. كما توقعنا .. المضخات متوقفة .. وانتظار سيارات اقل .. واصلنا سيرنا .. عند واحة براك اعدنا التزود بالوقود .. عبرنا بطحاء زلاف .. وعند بوابة قويرة المال .. مدخل سبها .. ادار مقود السيارة يسارا نحو وادي البوانيس .. واحة تمنهنت .. واحة سمنو .. اسامة ابن اخي تولى مهمة قيادة السيارة .. محمد ابني 12 عام .. الجالس بالكرسي الخلفي .. يتطلع من نافدة السيارة .. والكاميرا بيده .. اختار لنا باقة ذكرى .. صور لمعالم على الطريق .. الساعة الرابعة والنصف ، وصلنا الزيغن .. واحتي .. قبل ساعة من موعد الدفن .. الناس من مدن وقرى وواحات فزان هنا .. حظروا للمواساة .. قلبي معهم وهم في طريق العودة الى مدنهم وقراهم .
لحظات تشييع الجثمان .. مرارة الحرقة .. تكالبت وتزاحمت أسباب الهذيان .. اهات تتلوها عبرات وزفرات .. غصات القلب وأوجاعه تتكلم .
.. وحالة من الذبول والغثيان جاثمة على الصدر والكيان ..
حزني عليك أكبر من كلماتي وألمي … من يعزيني فيك . ما احر احتراقي عليك .. ابكاني فقدك احر بكاء .. يا لقلب وجيع .
لحظة موارته الثرى .. عانقته مرة اخرى .. جسدا هامدا هذه المرة .. بعد الآن .. يوسف .. لن تعد تكتحل عيني برؤيته ثانية .. لا حيا .. ولا جثة هامدة .. غاب في الابدية .. مضرجا بالدماء .. لقد قرع الطبل .. وحان موعد الوداع الاخير .. وداعا يوسف .