في حديث صحفي يمكن وصفه بالطويل جدا ل Jeffrey Goldberg مراسل مجلة “The Atlantic”, تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن مفاهيم سياسية جديدة يمكن وصفها بالزلزال السياسي و الديبلوماسي، الذي سوف تهتز له رؤوس حكام السعودية و تركيا و حتى إسرائيل.
هذه المفاهيم التي وصفها جيفري غولدبيرغ ب “The Obama Doctrine” أو “عقيدة أوباما”، تتلخص في النقاط التالية :
1- إتهم السعودية بشكل مباشر و فرنسا و بريطانيا بشكل غير مباشر بالإصرار الإجرامي على التدخل في الأزمة السورية.
2 – إعترف بكون الولايات المتحدة قد إرتكبت خطأ سياسيا جسيما بالتدخل في الأزمة الليبية، على إعتبار كونه كان يعتقد حينها أن فرنسا و بريطانيا سوف تتصرفان بإلازام سياسي أكبر خلال الفترة التي تلت سقوط نظام القذافي، و أكد إعترافه بأن تدخل حلف الشمال الأطلسي في ليبيا قد كان كارثيا.
3- أكد أن مصلحة الولايات المتحدة تفرض عليها أن تسعى للإنسحاب من مستنقع الصراعات الدموية في منطقة الشرق الأوسط و دعا السعودية و إيران للتوافق حول صيغة محددة لتقاسم النفوذ في هذه المنطقة الغير مستقرة و المتفجرة.
4 – حدد ثلاثة أشكال من التهديدات المباشرة للأمن القومي الأمريكي التي تستدعي التدخل العسكري المباشر في المنطقة : أمن الولايات المتحدة و أمن إسرائيل الذي يعتبره إلتزاما أخلاقيا له كرئيس أمريكي، و خطر تنظيم القاعدة، ثم أكد على أن إستخدام السلاح الكيماوي في الحرب الأهلية السورية (حادثة غوطة دمشق التي ثبت فيما بعد أنها إدعاء باطل ضد الجيش السوري بعدما ظهر أن غاز السارين قد إستخدم ضد المدنيين من طرف عصابة جبهة النصرة بتحريض من الإستخبارات التركية)، لم تكن تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي الأمريكي، و لعذا السبب رفض التدخل العسكري رغم الضغوط السعودية و التركية و الأردنية.
5 – تحدث بوضوح عن غضب عادل الجبير وزير الخارجية السعودي و ملك الأردن عبد الله الثاني و ولي عهد إمارة أبوظبي محمد بن زايد من رفض الولايات المتحدة للتدخل عسكريا بعد حادثة إستخدام السلاح الكيميائي في غوطة دمشق.
6 – تحدث عن حلفاء الولايات المتحدة في الخليج و أوروبا (السعودية و فرنسا و بريطانيا) واصفا إياها “بالقوى الجامحة” التي تحاول إستخدام القوة العسكرية الأمريكية في مواجهة مباشرة ضد إيران و تحدث عن حلفاء الولايات المتحدة في الخليج ” الذين يريدون جرنا لمواجهات و صراعات طائفية مدمرة”
7- تحدث عن السعودية التي تمول منذ العام 1990 المدارس الدينية الوهابية التي يعشقها آل سعود حول العالم (وصولا إلى إندونيسيا)، و وصف النظام السعودي بكونه يقمع نصف شعبه و لا يستطيع أن يتصرف بشكل مناسب في العالم الحديث.
8 – وصف رجب طيب إيردوغان بكونه إستبدادي و غبي و فاشل.
و لعل النقطة الثامنة هي أكثر المواقف السياسية صدقا و أمانة في حديثه الصادم هذا.
يمكن القول أن هاته المواقف تمثل تغييرا جذريا في التوجهات و العقيدة السياسية الأمريكية خلال 70 سنة الماضية، حيث مثلت سياسة التدخل المباشر سياسيا أو عسكريا في الأحداث العالمية إلتزاما ضمنيا في سياسة البيت الأبيض بدأ مع دخولها الحرب العالمية الثانية بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور و لم تتغير هاته القاعدة بتغير الرؤساء الأمريكيين بين الحزبين الجمهوري و الديموقراطي، أوباما يعبر اليوم عن عقيدة سياسية جديدة تختلف تماما عما سبقها، بالتحديد فيما يخص منطقة الشرق الأوسط المشتعلة على كل الجبهات، حتى أنه يتحدث عن سياسة جورج بوش الإبن الفاشلة التي ملأت أروقة مستشفى Walter Reed العسكري في واشنطن بآلاف الجنود الأمريكيين المعطوبين و الجرحى، جراء حربين مكلفتين عسكريا و ماليا و إنسانيا و بدون جدوى سياسية حقيقية.
يمكن وصف هذا الحديث بالصراحة القاسية التي لجأ إليها أوباما للتعبير عن قناعاته السياسية التي يعترف بنفسه خلال حديثه أنها كانت محط صراعات حامية بين مستشاريه و وزراءه داخل البيت الأبيض مثل جون كيري و جو بايدن و ليون بانيتا، كما إمتدت بين صانعي السياسة الأمريكية في البنتاغون و وزارة الخارجية و مجلس الأمن القومي وصولا لمختلف مراكز Think Tank التي تؤثر بدورها على القرارات السياسية التي يأخذها الرئيس، و لعل من أكثرها قوة قراره بعدم التدخل العسكري في سوريا و اللجوء عوض ذلك للضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكي يرغم بشار الأسد على التخلي عن ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية، و هو ما تم فعلا بعد ذلك.
لكن الشيء المؤكد هو أن رفض التدخل العسكري في سوريا لم يكن قطعيا، فقد لجأت الإدارة الأمريكية لصيغة تدخل غير مباشرة في الأزمة السورية، سواء عبر العمليات الإستخبارية السرية أو تسليح و تدريب و تمويل الجماعات الإرهابية المسلحة في سوريا، و لعل أبرزها هي صفقة آلاف صواريخ التاو المضادة للدبابات التي قدمتها السعودية من مخازن جيشها للجماعات الإسلامية التابعة لها في سوريا و تم تعويضها بصفقة عسكرية جديدة إقتنت عبرها ترسانة جديدة من صواريخ جديدة من طراز أحدث من سلسلة التاو من مخازن الجيش الأمريكي مباشرة.
هاته المواقف السياسية التي يمكن إعتبارها زلزالا سياسي حقيقيا سوف تؤثر بشكل قوي على الرئيس الأمريكي القادم و إدارته و هي في جوهرها ليست إلا إمتثالا طبيعيا لحقائق واقعية على الأرض تفرض متغيرات جديدة على صانعي السياسة الأمريكية، و لعل أبرزها هو الإنهيار المستمر لأثمان النفط في الأسواق العالمية، مع يرافق ذلك من ركود إقتصادي يعم العالم بأسره و ينتج عنه إنخفاض الطلب على الطاقة الأحفورية الأكثر إستهلاكا اليوم، يضاف إلى ذلك إصرار السعودية على الدخول في مواجهة إقتصادية عبثية مع إيران و روسيا عبر إغراق السوق بمعدلات إنتاج تفوق السقف الذي قد يحقق إستقرارا نسبيا للأثمان في البورصات العالمية، و ذلك بغية الإضرار بإقتصاد الدولتين و التأثير على مداخيلهما المباشرة، إلى جانب إنخفاض كبير في تكاليف إستخراج و إستغلال النفط الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية، مما نتج تغير جذري في العقيدة السياسية للبيت الأبيض.
هذا التغيير الجذري و الصادم يمكن وصفه بالمسمار الأخير في نعش معاهدة كوينسي بين الرئيس الأمريكي روزفلت و الملك عبد العزيز عام 1945، و التي إلتزمت بموجبها الولايات المتحدة بضمان حماية النظام السعودي سياسيا و عسكريا، لقاء إلتزام هذا الأخير بضمان تدفق النفط السعودي و الخليجي للأسواق الأمريكية و الغربية و إستثمار نسب ضخمة من عوائده في الإقتصاد الأمريكي عبر الصناديق الإستثمارية و أسهم كبريات الشركات الأمريكية، هذا الإلتزام السياسي و الأمني و العسكري و الإقتصادي المتبادل قد صمد طيلة عقود طويلة أمام عواصف عاتية، تبقى أبرزها هي الحروب و المواجهات العسكرية الطويلة و المرهقة بين إسرائيل و الدول العربية، لكنه لم يصمد أما الحقائق الإقتصادية القاسية التي تفرض نفسها بشدة اليوم و تدفع الولايات المتحدة لتغيير دفة توجهاتها السياسية بشكل جديد تماما.
و أكاد أجزم بأن وقع الصدمة سيكون مدمرا على الجانب السعودي و الخليجي بالخصوص، فالسعوديون لن يفهموا الدوافع القوية وراء هذا التغيير المفاجيء و هم بالتأكيد سوف يعتبرون تصريحات باراك أوباما هاته بمثابة خيانة كبيرة من طرف حليف دأب دوما على دعمهم و الوقوف بجانبهم بقوة حتى في أحلك الأوقات التي مرت بها المنطقة، و هو ما يمكن إعتباره د فعل طبيعي جدا و متوقع من طرف نظام عربي رجعي و إستبدادي فاشل، فالشيء الذي طالما تميز به العرب دوما عن باقي الشعوب، هو عجزهم عن قراءة الواقع بتجرد تام، و عجزهم الأكبر عن إستشراف المستقبل كما يجب على ضوء الأحداث المتوالية التي يمرون منها، إنه الغياب الأبدي و الأزلي لبعد النظر سياسيا و عسكريا و إقتصاديا, هذا التغيير الدرامي يمكن إعتباره بداية النهاية الفعلية للسعودية ككيان سياسي إمتد تأثيره السلبي خارج حدود المعقول و بأكثر منا يجب.
أما الولايات المتحدة، فأمامها اليوم جبهات أصعب و أكثر تعقيدا من منطقة الشرق الأوسط بأزماتها و حروبها التي لا تنتهي، و لعل أصعبها هو الصين التي يدأن منذ مدة ليست بالقصيرة في بناء حاملات الطائرات، مما يعني إستعدادها للتحرك خارج مجالها الطبيعي المع وف، سعيا وراء السيطرة على محاور نفوذ جغرافي و سياسي و إقتصادي جديدة، قد تمتد حول العالم، مما يمثل تهديدا جديا و فعليا للأمن القومي الأمريكي.
مهدي بوعبيد
13/03/2016
رابط الحديث الصحفي لأوباما مع مجلة “The Atlantic” :
http://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/