ما هو السبب الذي جعلكَ/كِ مقتنعا/نعةً انكَ/كِ عندما تضغط/ين على الرابط سيحيلكَ/كِ على موقع آخر؟
حسنا، الأمر بسيط، ذاك الاقتناع هو نتيجة تراكم التجارب السابقة التي جمع فيها عقلكَ/كِ، بين عملية الضغط على الرابط و التحول إلى صفحة أخرى.
في علم المنطق يعتبر هذا الاقتناع نتيجة للاستدلال الاستقرائي.
ما الاستقراء إذا؟
يعرفه دافيد هيوم كالتالي :” الاعتقاد الذي يفيد أن الظواهر التي لم نختبرها بعد يجب أن تشابه الظواهر التي إختبرناها، و ان المجرى الطبيعي سيستمر كما هو، بإنتظام دائم”.
يفهم من هذا التعريف أن ما يبرر الاستقرار كمنهج استدلال هو بديهية ثبات النظام الطبيعي للأشياء. أي أن التجارب السابقة التي عيناها و خبرناها ستتكر بوجود نفس المسببات. و لكن، هنا بالذات يتدخل هيوم ليحدث أول هزة ايبستمولوجية في تاريخ المعرفة الإنسانية.
من مطلق المذهب التجريبي الحسي ( Empirism)، ينتقد الفيلسوف الانقليزي المنطق الاستقرائي في العلوم. حيث يبين أن بداهة ثبات الطبيعة ليست إلا عقيدة يتخذها العقل البشري وحده و يسلم بصحتها حتى يتمكن من التأسيس للعلم كنسق معرفي. في حين أن مبدأ السببية ذاك يقوم على فرض منطق جمودي في عملية الاستدلال. مثلا لو أردنا التأكد من صحة قضية الحديد يتمدد بالحرارة يجب اول أن نفترض ما يلي؛
1-الحديد الذي إختبرناها يتمدد بالحرارة
2-الماضي مثل الحاضر و المستقبل
3-اي معدن سيتمدد بالحرارة في المستقبل.
و لكن يتبين هنا أن هذا الاستدلال عبارة على دائرة ( tautology) يُفترض فيها المراد إثباته في احد المقدمات. و عليه حسب هيوم، العلم التراكمي الاستقرائي لا يخلو، بل مؤسس في جوهرة على مجموعة من الاعتقادات و الأوهام التي ينتجها العقل و التي لا يمكن حسيا إثباتها.

مثل نقد هيوم المطرقة التي أيقظت العقلانيين من سباتهم الدغمائي، و يعتبر إيمانويل كانط من اول أولئك الذين تم إيقاظهم. و لكن وجد كانط نفسه مطالبا بإعادة الإعتبار للعلم التراكمي، كونه بكل بساطة التصور الوحيد للعلوم في ذلك العصر!
حدد كانط مبدأ السببية، بما هو المبرر الإيبستمولوجي للاستقراء، باعتباره مقولة عقلية ذات وظيفة تنظيمية تُرتب المعلومات الحسية القادمة الخارج. بالتالي يقر كانط بصحة نقد هيوم للتصور وجود السببية كمعطى حسي، و لكن كانط يصنفها كمقولة ماقبلية من مقولات العقل المحض.
اساس محاولة كانط لإصلاح المنهج العلمي تقوم على الانتقال من منهج حسي واقعي إلى منهج متعال ( transcendantal) و متجاوز بالمقولات العقلية، مثل السببية، الواقع نفسه. بذلك، يعود كانط بالعلوم إلى نوع جديد من العقائدية، و لكن الخطير في ما أسسه كانط هو تحويل العلوم إلى نوع الإنتاج، اي أن الباحث في النهاية لا يعرف العالم كما هو بل يعرفه بعد أن يعيد تنظيم المعلومات الحسية حسب مقولات العقل المحض، و بالتالي يعيد إنتاجها كما يتبين له. على هذا الأساس نحن لا نعرف العالم، بل نعرف تمثلنا عن العالم!

في الحقيقة، حتى محاولة كانط التي طالما شاع انها أنقذت المنهج العلمي، تعتبر مخيبة للآمال بالنسبة لماكس بلاك(Max Black) . إذ يتراءى له، أن عدم القدرة على برهنة صحة مبدأ السببية، و ثبات الطبيعة واقعيا، يضطرنا إلى تصنيف هذا المشكل مع المشاكل التي لا تحل مثل محاولة تربيع الدائرة!
إن المسألة بهذا المعنى تدل على أن الإنسان يخترع النظريات و يفترض المبادئ على الطبيعة كإرادة منه للسيطرة عليها و التحكم فيها. بمعنى آخر، العلم مصلحة على حد تعبير هابرماس.

يأتي كارل بوبر في ثلاثينات القرن الماضي ليعيد طعن جوهر المنهج التجريبي للوضعيين المنطقتين، الذي انتشر كثيرا حينها نتيجة لتطور نوعي للعلوم. من صياغة مبادئ الترموديناميكا”thermodynamics” من قبل بولتزمان، و نظرية ذبذبات الراديو التي طورها هيرتز، إلى النظرية النسبية لصاحبها أينشتاين الخ.
يعيد بوبر بداية نقاش الشكية التي أقامها هيوم تجاه الاستقراء، فلم يقبل تلك النزعية التي تنتهي حسبه إلى الشك اصلا في وجود العالم. و بالمناسبة يعبر عن سخريته تجاه هذا النقاش الذي أصاب الفلسفة و هذا الجدال الذي يتخذ وجود العالم من عدمه موضوعا له، و يقدمه كفضيحة فلسفية. مع، ذلك يتفق بوبر مع هيوم على أن الاستقراء يحمل في جوهره مشكل منطقي، فالانتقال من الجزئي إلى الكلي غير مبرر منطقيا بأي حال من الأحوال، و ينتهي لا محالة إلى الوقع في الخطأ.
يستعين بوبر بمثال البجع لتفسير هذه النقطة. حيث يقول، نحن نعتبر أن البجع ابيض لأن جميع مشاهداتنا وقعت على بجع ابيض، و لكن هل شاهدنا البجع الموجود كليا؟
من البديهي أن الجواب لا، و هذا ما يسمح منطقيا بوجود ثغرة في هذا الاستدلال. بالتالي، مالذي يسوغ إطلاق الأحكام الكلية على الطبيعة إنطلاقا من جزئيات غير عقيدة ما تنخر اساس العلم؟
فالادعاء أن تلك النظرية علمية بمجرد انه تم التأكد من صحتها تجريبيا لا يكفي و لا يبرر هذه العلمية المزعومة. لأن هذا المنطق يفرض من أجل صحته كلية القوانين الطبيعية، و هذا أمر مختل حسب بوبر. فالتجربة مهما تعددت لا تخرج من إطارها الجزئي. في هذا المستوى يخترع بوبر مفهومه الشهير مبدأ الرفض فالنظرية تبقى صالحة ما دامت لم تفند، وليس لأنها متحققة تجريبيا.

حسنا الان لنقم بتلخيص سريع لما تم عرضه حتى اللحظة. بداية يقوم المنهج التجريبي على مبدأ الاستقراء، الذي يعمل بمنطق إطلاق الأحكام الكلية اعتمادا على الجزئي. كل المعارف التجريبية للبشرية قائمة على هذا المبدأ. في المقابل يتبين لنا أن هذا الاستدلال مدعاة تسأل و شك في مدى منطقيته و تناسقه في إنتاج المعارف!
على ذلك، يبدو أننا في النهاية سجناء الماقبليات حسب المفهوم الكانطي، و لا نعرف من العالم إلا ما ارتدت بها إرادة المعرفة لدينا و ما تقتضيه مصلحتنا.

و لكن دعنا نطرح تساؤلا جذريا، هذه الأسئلة الإيبستمولوجية و هذه الهواجس التي تهتم بنظرية المعرفة، طالما كانت من اهتمامات الفلسفة، فماذا لو قاربنا الأمر من زاوية بيولوجية؟
الن يعطيني ذلك وضعية استراتيجية في فهم طبيعة المعرفة الإنسانية ؟
بداية، يجب الحفر تحت جبال مفاهيم العقل حتى نصل إلى الدماغ ،كمعطي طبيعي و بيولوجية. يزن ذلك العضو الأهم في الجهاز العصبي للإنسان، قرابة ال 1،5 كغ. الدماغ البشري، كغيره، هو نتيجة تراكم التاريخ التطويري لملايين السنين من الحياة العضوية. و يتشارك في بنيته العامة مع اغلب الثديات الأخرى. أما فيما يخص خط البشريات، فالدماغ الحالي هو نفسه الدماغ الذي امتلاكه الهومو سابينس خلال العصر البالوليتي قرابة ال 40 الف سنة قبل الميلاد.
تطور الدماغ، لدى جميع الكائنات، في هذا العالم تحديا. و الأمر على بداهاته يعطي الكثيرة من إمكانات الفهم لما نريد بلوغه. إذ أن الدماغ باعتباره جهازا يتكون من عدة وظائف حيوية و ذهنية، تطور لمعالجة هذا العالم الذي يحيط بالكينونة البيولوجية. فإذا كان الفرو الأبيض للدب القطبي نتيجة تأقلم مع وضع قائم، فإن الدماغ باعتباره عضو يعالج المعلومات، كذلك، نتيجة للوجود البيولوجي في العالم و الخضوع لقوانينه طوال مئات ملايين السنين.
تلك الآلية نفسها تجعل من الدماغ حساسا للنظام الذي يحكم طبيعة الأشياء حوله. و بمأن هوس الكينونة البيولوجية هو البقاء و التكاثر، فإن الحساسية التي يمتلكه الدماغ للأمور التي تتكرر أمامه روتينيا، تسمح له بتطوير سلوك ما يتجنب من خلاله أو يميل إلى هذا الشي أو ذاك بالنظر إلى النفع الذي يؤدي إلى الكائن الحي . هذا ما ينمي في الدماغ الشعور بعلاقات السببية التي تحكم الطبيعة حوله. لكم على عكس الإنسان، تكون بقية ادمغة الكائنات الأخرى حساسة لعلاقات السبيبة التي تعنيها بدرجة أساسية. كإنتظار أسد قرب بركة ماء و العلم ان هذا سبب كاف يجعل القطعان تأتي من جنوب الأرض و شمالها للشرب.
يميل الدماغ، بطبيعة تكوينه إلى الاستقراء، و رغم أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يكتب كتبا يناقش فيها منطقية الاستقراء ،فإن بقية الحيوانات تمارسه يوميا دون حرجة. فالفأرة مثلا، حينما تضع أمامها اربع حبات قمح كلها مسممة، ستستنتج أن جميعها مسممة لو أكلت إثنتين فقط ثم تتجنبها.
إذا الدماغ نفسه، ليس إلا نتيجة طبيعية للمجال الزماني و المكاني و ما يتخللهما من قوانين طبيعية تحكمها. لم يتطور الدماغ ليحل مشاكل مجردة و مفهومية، كما تلك التي يحاول البشر حلها الان، بل يتميز بطابع عملي براغماتي . و هذا بكل بساطة ما يعنيه مبدأ الاستقراء ، و ما يفرضه من ثبات الطبيعة. فالكائن الحية لا يهتم سوا بضمان بقائه و وجود شريك إنجاب، و الاستقراء يوفر ما يكفي من المصداقية ليؤدي دوره الوظيفي.

مالذي يعنيه هذا الأمر بالنسبة للمنطق و العلم؟

لا يملك البشر البنية التحتية الكافية للتفكير في مسألة بهذا التجريد فلو ارادنا حقا الذهاب بالإستقراء إلى اقصي حدود المنطق، فإن ذلك لن ينتج سوا عدمية معرفية. و بمأن المنطق نفسه إنتاج الدماغ البشري، و اللغة البشرية، فإن حدود المعرفة و المنطق ستبقى داخل حدود ذلك الجهاز الطبيعي و النظام الرمزي الذي انتجه.
إن العلم لا يمثل بأي حال من الأحوال الواقع، فذلك سيظل مجهول للإنسان طالما هو إنسان. و لن تتجاوز بذلك معرفته سوا ما يمثل مصلحته. فالعلم بهذا المعنى ليس معرفة للعالم، بل هو نسق معرفي لا يمكن أن يتجاوز الإنتاج التقني، بإعتباره أداة السيطرة على المحيط.
و على هذا كله، سيظل الإنسان حبيس تمثلاته و مخياله، لعجزه العضوي على تجاوز حدود ظواهر الأشياء.