انطلقت بنا سيارة بيك اب تويوتا مسرعة .. وصعد معنا 36 آخرين .. بعدما دفع جميعنا اجرة النقل للمهرب .. كانت نقطة الانطلاق مدينة أغاديز شمال النيجر .. نحو ليبيا .. وكنت محظوظ وقد جلست على كومة من الإمدادات والعفش ، وظلت قدماي معلقة تتدلى على الجانب .. كنت اعلم ان السائق لن يتوقف إذا ما سقط أيا منا من على ظهر السيارة . وكان جفاف الحلق والجوع ينهشني . وعيناي تكتوي بلفح الغبار وحبات الرمل التي تبعثرها اطارات السيارة خلفها .. ولمدة ثلاثة ايام من السفر دون توقف سوى للتزود بالوقود وشرب قليل من الماء .. كم كان مضنيا .
في اليوم الرابع ، تبين ان السائق تاه الطريق .. تعطلت بوصلة تحديد الاتجاه عن العمل .. وكانت تلك اولى معاطب نكبة التيه .
لقد سمعنا كثيرا عن العاملون في المجال الإنساني ، وعن مجموعات دولية تتبع أعداد المهاجرين الذين يغرقون في البحر المتوسط اثناء عبورهم إلى أوروبا. وفي العام الماضي فقط ، قدر عدد ضحايا الغرق بنحو 3800 شخص لقوا حتفهم .. ولكن لا أحد احصى كم التهمت رمال الصحراء في جوفها .. وفي غياب الاحصاءات يجد السياسيين فرصة سهلة للتجاهل .. كما وان وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة هي الاخرى ليس لديها بيانات عن كيف يموت كثير من الناس هنا .. في براح الصحراء القاحلة .. حيث لا احد .. ولا تمتلك اية معلومات حول اعداد الموتى . وما يتوفر عدد قليل من قواعد البيانات تفتقد الدقة وغير رسمية ، يحتفظ بها المتطوعون والأكاديميين والمنظمات غير الحكومية ، لكنها تعتمد إلى حد كبير على تقارير توقعات وسائل الإعلام وتكهناتها .. وفي معهد الهجرة الدولية أكسفورد المهتم بالعمل الميداني في الصحراء لأكثر من عقد من الزمان .. بما في ذلك شمال النيجر ، لا توجد اية بيانات .. انها مشكلة .. ويبدو انها تخصنا وحدنا ، فهناك الكثير من الناس يموتون في الصحراء .. يالمثل .. كما الذين يموتون في عرض البحر الأبيض المتوسط ، ولا يمكن إثبات ذلك ، لذلك نستطيع أن نقول ، لهذا .. لا احد يرغب في التدخل .
بعد يوم من التيه في اتون صحراء جرداء .. نفذ وقود السيارة ، وواجهتنا عاصفة هوجاء .. واضطررنا لتكملة الرحلة مشيا على الاقدام .. وكنا كلما قطعنا مسافة سقط احدنا .. نقف برهة لنودعه .. ونحن عاجزين عن مد يد العون له .. ونمضي في طريقنا .. بحثا عن حبل النجاة .. هائمين على وجوهنا .. دون معرفة الى اي وجهة نحن سائرون ، وفي اليوم الخامس بلغ التعب مداه .. صديقي ورفيقي .. وقع ارضا .. ممددا .. لقد مات .. كم آلمني كثيرا .. كنا قد تواعدنا .. لنشد ايدينا .. ونغامر سويا .. ونرحل .. نعلم حجم المتاعب التي تنتظرنا .. والفكر فيما يلزمنا لقطع المسافات بالبراري المقفرة .. وبوابات وحدود .. ومقارعة امواج المتوسط .. وقوارب مهترئة .. نحجم احيانا عن الفكرة .. لكننا نعود اليها .. فالبقاء هناك .. في اغاديز .. الموت البطيء .. اقسى وجعا .