بالرغم من الأفكار الإشتراكية التي تبنتها ثورة يوليو إلا أن اليسار المصري يعتبر أكثر المنتقدين لمرحلة الستينات التي تسمى عادة بالحقبة الناصرية ، حيث أتهم اليسار ” ناصر” بأنه أرتدى القناع الإشتراكي وفقا لأوضاع تلك الفترة ، و ان المكاسب التي يتحدث عنها الناصريون ما هي إلا دعم للديكتاتورية العسكرية في مواجهة حركة شعبية تطالب بالديمقراطية ، و برروا ذلك بما يلي :
* قمع إضرابات عمال نسيج إمبابة بالدبابات 1953
* إعدام قادة إضراب عمال كفر الدوار في نفس السنة
* فقد التنظيمات العمالية إستقلاليتها و تبعيتها للحكومة ، و اصبح قادة اتحادات العمال يجب أن يدينوا بالولاء للنظام الحاكم
* إعتقال كوادر الحركة الشيوعية عام 1959 ، ولم يتم الإفراج عنهم إلا في عام 1964
* القطاع العام تسيطر عليه البيروقراطية التي تنهبه و لا تترك للعمال سوى الفتات
لذا جاء وصف اليسار المصري للمرحلة الناصرية بأنها كانت دولة البرجوازية ، فكل المكاسب العمالية كانت شكلية تم إجهاضها عن طريق وضع لوائح بيروقراطية في صالح الطبقة البرجوازية و الطبقة العسكرية المسيطرة على الحكم.
فالتجربة الناصرية في ظاهرها إشتراكي إلا أنها على أرض الواقع كانت ما هي إلا خدعة تتغنى بالإشتراكية و مفاهيم العدالة و المساواة ، فالملكية الخاصة استمرت كنمط سائد بالرغم من الدور الذي لعبته الدولة إعادة تشكيل البنية الإقتصادية من حلال الإستحواذ على فائض رأسمالي و إعادة توزيعه لتحقيق قدر من التوازن بين الريف و المدينة و تصفية العلاقات الإقطاعية ، و أن قوانين الإصلاح الزراعي حققت المساواة في الملكية وليس إلغاؤها ، فهذه القوانين أفضت إلى رسملة الريف كما شرحت في الحلقة السابقة في الجزء الخاص بتوزيع الثروة الزراعية و كيف أن قوانين الإصلاح الزراعي لم تؤثر كثيرا على أوضاع البرجوازية الإقطاعية بل ساهمت في نمو طبقة أخرى و هم الوسطاء اللذين باتوا يسيطرون على الحياة الزراعية في مصر.
حتى الطبقة المتوسطة التي ساهمت في تكوين السلطة الجديدة ، سيطر عليها طموحها الطبقي فعملت على الإستفادة من سلطتها الجديدة و قد تبلور ذلك في ظهور ما سمي برأسمالية المقاولات التي تحالفت مع الدولة و التي أصبحت مع مرور الوقت ذات قوة مؤثرة و أصبحت مصالحها تتقاطع مع مصالح الدولة و أصبحت تلك الطبقة الصاعدة أحد أعمدة التوجه الرأسمالي الذي سيأتي مع منتصف فترة السبعينات ، حتى الشركات التي تم تأميمها عدد لا بأس منها تركت إدارتها في يد اصحابها ، بل أنها تحررت من العديد القوانين الخاصة بالقطاع العام ، فالتأميم هنا جاء شكليا.
نقـد اليمين الليبرالي للمرحلة الناصرية
انحصر نقد اليمين الليبرالي للمرلة الناصرية في ست نقاط اساسية جاءت كالتالي
أولاً : ضرب جمال عبد الناصر الحياة السياسية فى مقتل , و جمد التطور السياسى الطبيعى للتجربة الحزبية فى مصر , التى مهما كانت عليه من فساد و ضعف , فقد كان التوجه الطبيعى هو النمو و الازدهار و ليس التجميد و الإلغاء
ثانيـاً : على المستوى الاقتصادى .. دمر عبد الناصر التجربة الرأسمالية الوليدة فى مصر و التى كانت تحتاج إلى المزيد من العدل الاجتماعى الذى كان سيتولد مع التطور السياسى للحركة الحزبية و العمالية و النقابية , و لكن سياسات التأميم نصبت العسكر على مقاعد الإدارة فى المصانع و حلت عقلية الأوامر و التوجيهات الصارمة محل عقلية المرونة و التفكير العملى لدى رجال الأعمال ، و لعل الطفرة التى حدثت فى الخطة الخمسية الأولى لم تكن إلا من نتاج التراكمات المالية من تأميم الملكيات الصناعية , و ليس من نتاج قاعدة إنتاجية نشيطة تملك خلفية البحث العلمى و العقلية الابتكارية ، بينما أدى قانون الإصلاح الزراعى إلى تخريب الاقتصاد الزراعى فى مصر عندما تم تفتيت الملكيات الزراعية و توزيعها على الفلاحين بواقع خمسة أفدنة للفلاح , و نسى “ناصر” أن الشريعة الإسلامية من خلال نظام المواريث تؤدى إلى تفتيت الملكية , و بالتالى فإن الفلاح الذى حصل على 5 أفدنة ستتفتت ملكيته الصغيرة لتتحول إلى بضعة قراريط يمتلكها أبناءه , و بالتالى انهيار النشاط الزراعى الذى لا ينمو – وفقا لبديهيات الاقتصاد الزراعى – إلا فى ظل الملكيات الكبيرة.
ثالثا : كانت كارثة الكوارث فى تجربة الحكم الناصرى تخفيض إيجارات المساكن و تجريم خلو الرجل , الأمر الذى أدى إلى هروب المستثمرين من بناء المساكن للإيجار و التحول إلى نظام التمليك , و بدلاً من أن يدفع المواطن جزء من راتبه لكى يستأجر شقة , أصبح مطلوباً منه أن يدفع ثروة لن يجمعها إلا بعد 40 سنة لكى يحصل على مسكن . بينما تحولت العقارات القديمة التى أصابتها التخفيضات فى القيمة الإيجارية إلى خرابات لا يمكن لملاكها صيانتها نتيجة الأجرة الزهيدة و امتداد عقود الإيجار للمستأجرين إلى ما لا نهاية..
رابعا : على المستوى العسكرى .. تم استنزاف الجيش المصرى من خلال تنصيب قيادة عشوائية على قمته ، و من خلال توريطه فى نزاعات خارجية مثل حرب اليمن ، كذلك من خلال بريق المناصب المدنية التى رأى العسكريون أن أقرانهم يغترفون فيها من ذهب السلطة و بريقها و هيلمانها بعيداً عن جفاء الحياة العسكرية و صرامتها ، و بالتالي أصبح الجيش المدخل للعمل السياسي أو الاقتصادي و ليس العسكري , مما أصاب المؤسسة العسكرية المصرية في مقتل تجلت أولى نذره فى يونيو 1967.
خامسا : على المستوى الاجتماعي .. أسس عبد الناصر لفوضى طبقية كانت هى المسئولة عن تدمير الطبقة الوسطى فى مصر و ليس كما يدعى غلاة الناصرية بأن سنوات الانفتاح هى المسئولة عن ذلك , فالطبقة ليست مجرد تراكم مالى و إنما هى تراكم فى العادات و التقاليد و القيم و الأصول , و بالتالي فان تدمير طبقة ما يعنى تدمير كل تلك الجوانب التى هى جزء من تراث أى أمة , و يتعجب الإنسان من ارتباط الطبقة التى دمرها عبد الناصر بعدد كبير من الانجازات العظيمة فى المجالات الفكرية و الفنية و المعمارية و التعليمية و الخيرية و السياسية و الاقتصادية , و بالتالى فإن تدمير الطبقة كان بمثابة تدمير لكافة منجزاتها , و كأن علينا أن نبدأ دائماً من الصفر كلما جاء فرعون دمر آثار الفرعون السابق . و أدت الفوضى الطبقية إلى ترييف المدن و زحفت قيم القرية إلى المدينة , رغم أن قيم القرية لا تصلح إلا للقرية و قيم المدينة لا تصلح إلا للمدينة , و تكفل من بعد ذلك عصر السادات بأن تزحف قيم الريف إلى المدينة , و هكذا تم ترييف المدينة فتخربت المدن وتم تمدين القرية ففسدت القرى.
سادسا : على مستوى العلاقات الدولية .. فالسياسة هى فن و علم إدارة المصالح و فى الفقه السياسى المصلحة هى الإستراتيجية و الولاء هو التكتيك فأينما وجدت المصلحة اتجه مؤشر الولاء و بالتالى لا توجد فى السياسة صداقات دائمة أو عداوات مستحكمة و إنما صديق الأمس يمكن أن يكون عدو اليوم و عدو اليوم يمكن أن يكون صديق الغـد ، فمشروع الوحدة العربية وهم كبير لا يجب أن يتفق مع عالم السياسة الذي تحكمه قواعد ميكافيلية صارمة.
لتبدأ مصر عصر جديد بدا من عام 1974 و عهد جديد أختلفت فيه التوجهات و جولة جديدة في عهـد جديد.
6 تعليقات على إلى أين نحن ذاهبون ؟ ( 5 )
أهلًا يا عمرو،
قبل أن أرد على مقالتك الجديدة، والرد محفوظ لسّه،
يا ريت تردّ عليّ انت في ردي الطويل على مقالتك الرابعة… واهي الحياة أخذ ورد!
http://www.mideastyouth.com/ar/?p=4707
يعني سردك يا عمرو في هذا الجزء يخلو، مع بعض التحفظات، من المغالاة الناصرية التي انتقدتها نفسك في هذا الجزء، ولكنك ارتكتبها بشدة في الجزء الأخير.
المرحلة كانت متخبّطة، ولكن الأسوء فيها أكثر بكثير جدًا جدًا من الجيد.
واحب أسمع رأيك بكل تأكيد.
تحياتي
عزيزى عمرو
كنت متابعا لسلسلة مقالاتك، و ان كان أسلوبك فى العرض مميزا، الا و أننى رأيت أنك أحترت كما أحترنا جميعا فى المرحلة الناصرية، و كما حدث لمعظم المثقفين الذين سجنوا وعذبوا فى عهد ناصر، خرجوا بعد وفاته ينعونه فمنهممن قال أن القائد لم يذهب أبدا بل دخل الغرفة كى يرتاح، و منهم من قال و ان كان جرح قلوبنا فكل الجراح طابت و آخرون كثيرا.
ناصر لم يدرك أن هناك قوانين طبيعية تقضى بتفوق بعد الأفراد على غيرهم.
ناصر لم يدرك أن الاشتراكية وهم كبير( التى كانت موضة )، أعطى لمن لا يعمل أموال من يعمل.
ناصر لم يدرك أن مصر دولة صغيرة ليس باستطاعتها مقارعة أمريكا، و بالتالى أرتمينا فى أحضان البلاشفة الشيوعيون.
ناصر آمن بأهل الثقة و ليس الخبرة.
ناصر كانت لديه فرصة ذهبية ليغير تاريخ العرب عن طريق الديمقراطية، و لكنه للأسف أضاعها.
لا أدرى من ألوم عبد الناصر أم أحزاب الباشوات التى سكتت و رضت بأن تحكم مصر بالديكتاتورية.
شكرا
أحسنت يا سمّان!
عزيزي أحمـد زيدان
أنا آسف في التأخير في الرد .. و الله مشغول جدا اليومين دول
المهم بص يا احمد سلسلة المقالات دي مش بنتقد فيها أي إتجاه لكن بحاول أعمل سرد تاريخي لحال المجتمع المصري خلال ثلاث حقب تاريخية و ذكرت في الجزء ده إنتقادات اليمين و اليسار له من غير زيادة أو نقصان … تجربة ناصر تجربة جديرة بالأحترام رغم أختلافي معها ، أما عن ردك في الجزء السابق فأعتقد أني رديت في المقال الحالي
أحمد السمان أهلا بيك
أنا متحرتش في في رؤيتي لعبد الناصر و المثقفين ما أحتاروش لرؤيتهم لتجربته ، في فرق أني أختلف مع الحاكم في التنفيذ على أرض الواقع ، الخلاف بين عبد الناصر و مثقفي الستينات كان في تنفيذ الأفكار و ليس في الافكار نفسها و الأختلاف كبير
موضوع القوانين الطبيعية دي موضوع متزعلش مني أيه هي القوانين الطبيعية لو أخدنا المجتمع المصري ، وهو في الأساس مجتمع زراعي قائم على التعاون و التكافل و ليس على المنافسة و التناحر … هل القوانين الطبيعية فق في التنافس اللي هي العصب الأساسي للرأسمالية لا أعتقد
الإشتراكية مش وهم كبير إلا في عقول منتقديها أو من لا يستفيد منها
مصر لا تستطيع مقارعة أمريكا … أقولك أيه هسالك سؤال هما قبضوا على بن لادن و الا لأ
أما موضوع الديمقراطية أنا متفق معاك ، بس في حاجة صغيرة.. يمكن أتيحت ليا الفرصة اني أطلع على عدد كبير من جلسات اللجنة المركزية للاتحاد الإشتراكي في إحدى الجلسات على ما أتذكر سنة 68 ذكر ناصر انه سيعيد الاحزاب فور الإنتهاء من الحرب … و في نقطة تانية معلش مش هقدر أذكرها دلوقتي لأنها هتكون في الجزء القادم
أرتضاء الشعب المصري بحكم ديكتاتوري مستمر لغاية النهاردة ، حال البلد من اسوء لأسوء و الشعب ساكت وراضي تفتكر ليه !!!