ثنائية الضعف و القوة في الإسلام، ثنائية لا يفهمها و لا يعيها إلا من يعلم الفرق الكبير في الأحكام و التوحيهات بين الآبات المكية و المدنية في القرآن، فطيلة 13 سنة من الدعوة للإسلام بالحسنى و الطيبة وسط مكة لم يلتحق بالدين الجديد إلا 150 شخصا هم بسطاء القوم و فقراءهم و خاصة من طبقة العبيد و من القبائل التي لم تكن لها سلطة المال و لا الجاه و لا القرابة العائلية مع وجهاء بطون قريش الغنية و القوية، و مباشرة بعد الهجرة تغيرت المعادلة بعد أن تكاثر الأتباع و بدأت التحالفات مع الخزرج (و هم أخوال محمد) و تكاثرت الأموال من الغنائم و بدأ قطع الطرق على قوافل قريش، و تبعا للسلطة الجديدة المتعاظمة و القوة العسكرية المتنامية، تغيرت لغة القرآن من الأسلوب الهادئ المهادن الذي يدعو بالحسنى و يحاول الإقناع بالتي هي أحسن و الكلمة الطيبة إلى لغة أكثر تشددا و أكثر قوة، و أسلوب تعبيري لا يتسم بالتسامح و لا يعترف بحرية الآخر في التفكير الحر و لا بحريته في الإقتناع من عدمه، و إنما يعتبره مباشرة شخصا كافرا و ضالا عن طريق الله، و بالتالي من حق المسلمين الذين يمتلكون اليوم أسباب القوة و التمكين أن يحاربوه و يقاتلوه و يسلبوا ماله و أملاكه و يأخذوا أهله و زوجته و أولاده عبيدا يبيعونهم أو يسترقونهم بتشريع سماوي مقدس و منزل من عند الله من اللوح المحفوظ (و قد بيعت عائلات و زوجات و أطفال يهود بني قريظة في أسواق النخاسة بعمان و الطائف لشراء الأسلحة بأمر من محمد نفسه، و ذلك في تناقض تام مع مفهوم الرحمة و الحسنى مع المخالفين التي كان يدعو لها القرآن من قبل).
هذه الثنائية تظهر أيضا بوضوح فيما يتعلق بالمسيحيين و اليهود، أو من يسميهم القرآن أهل الكتاب، ففي البداية كان القرآن المكي يحاول مرارا و تكرارا إستمالتهم إلى جانب الدعوة و صاحبها العجز عن جمع المزيد من الأتباع، حيث امتدت هذه المحاولة إلى الدعوة للهجرة الأولى عند ملك الحبشة المسيحي النجاشي أصحمة بن أبجر الذي لا يظلم عنده أحد في سعي يائس إلى تحالف مع سلطة و قوة سياسية ذات شأن في السياق الزماني للأحداث، تحالف قد يمكن محمدا و أصحابه من مواجهة تعسف الملأ المكي من سادة قريش و وجهاءها، لكن ذلك التحالف لم يرى النور، ربما لكون ملك الحبشة قد فضل المحافظة على علاقته الطيبة مع قبيلة قريش، خاصة و هي تسيطر على طرق القوافل التجارية التي تربط بين الحبشة غربا و اليمن جنوبا و الشام شمالا.
كما تظهر كذلك من خلال محاولات محمد المتعددة لإستمالة اليهود عند وصوله للمدينة، نظرا لحاجته لأموالهم و لتجارة و صناعة السلاح التي كانوا يتقنونها (و قد إقترض منهم مرار و تكرارا للتجهيز لغزواته)، و لذلك نجد آيات عديدة في القرآن تمدح بني إسرائيل و تصفهم بشعب الله المختار و بكون الله قد فضلهم عن العالمين، بل و تؤكد على ما جاء في التوراة من الأحكام و الشرائع، تلك نفسها التي إستمد منها القرآن أغلب أحكامه و تشريعاته، فقد قال القرآن فى ( سورة الجاثية 45 : 16 – 17 ) : ” وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ” . لكن رفض اليهود القاطع للإعتراف بنبوة محمد و بما جاء به في القرآن، جعلت الآيات تنقلب بين عشية و ضحاها من مدحهم و وصف مناقبهم إلى ذمهم و لعنهم و نعتهم بأحفاد القردة و الخنازير و نعتهم بالنفاق و الكذب على الله و قتل الأنبياء و الرسل و عصيان شرائع الله و إنكار نبوة محمد و هي مصدقة لما جاء عندهم في التوراة، بل و امتد الأمر إلى حد استباحة دمائهم و أموالهم و نساءهم و أبناءهم، لينتهي بطردهم تماما من المدينة و من جزيرة العرب تماما كما أوصى بذلك محمد و هو على فراش الموت، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب أخرجه مالك في [ الموطأ ].
هاته الثنائية و هذا التجاذب بين موقعي الضعف و القوة قد طبعا تاريخ الإسلام كدين و توجه فكري (إن صح اعتباره فكرا) و ذلك طيلة 1437 سنة، حيث تأرجح المسلمون سياسيا و إجتماعيا و إقتصاديا بين الموقعين حسب تغير الأوضاع السياسية التي عاشوا فيها و مدى القوة العسكرية التي توفرت لهم، و التي إرتبطت في الوقت نفسه بمدى ضعف الدول أو الشعوب المحيطة بهم، و الشيء المؤكد هو أن امتداد الغزو الإسلامي خارج جزيرة العرب شمالا نحو العراق و الشام و شرقا آسيا الوسطى ثم غربا نحو مصر و إفريقية و ما يليها من دول شمال إفريقيا وصولا إلى المحيط الأطلسي ثم شبه الجزيرة الإبيرية، لم يكن ليحدث لولا تقهقر و إنهيار الفرس و الرومان بعد قرون من الحرب المدمرة بينهما و المعارك التي أنهكت الإمبراطوريتين ماليا و معنويا و عسكريا و حتى سياسيا، و هو ما وفر لبدو جزيرة العرب مجالا جغرافيا ممتدا بلا حدود و بما أن الطبيعة و السياسة لا يقبلان الفراغ، فقد وفر لهم ذلك فرصة سانحة للتمدد و لإنشاء إمبراطورية شاسعة الحدود، و من الضروري أن نؤكد هنا على تفصيل مهم شكل الدعامة الأساسية لإنشاء هذه الإمبراطورية، و هو ما يسمى بجهاد الطلب، الذي هو في حقيقته ليس إلى إمتدادا لتقاليد بدوية عرف بها عرب الجزيرة أكثر من غيرهم من باقي الشعوب المحيطة بهم، فكما يروي التاريخ ذلك فعرب الجزيرة لم يكونوا قوم تمدن و لا حضارة، و لم يعرفوا من قبل زراعة و لا صناعة و لا أية نشاط إقتصادي إنتاجي، و حتى التجارة لم يكن لها وجود في مجتمعاتهم قبل تجمع قبيلة قريش في وادي مكة و إهتمامها بتجارة القوافل بين اليمن جنوبا و الشام شمالا، فالعرب قبل كل هذا كانوا يعيشون عيشة البدو الرحل الذين يضربون بقطعانهم في الصحراء القاحلة بحثا عن الماء و الواحات التي توفر الكلأ لقطعانهم، و بين رحلة و أخرى كانت القبائل تمتهن تقليد الغزو و الإغارة على القبائل الأخرى المحيطة بها بحثا عن الغنائم و السبايا و سرقة قطعان الإبل و الماشية، و قد إستمر هذا التقليد بعد أن أخذ طابعا جديدا سماه الإسلام جهادا و وضع له قواعد و أسس تنظمه و تحوله لتقليد ديني مقدس، يحرض عليه النبي و يعتبره قمة الإمتثال لسلطة الله عبر نشر دينه في أصقاع الأرض، بينما امتلأ القرآن بالآيات المحكمة التي تدعو له و تحض عليه و تجعله بمثابة “ذروة سنام الإيمان” و تعد من إتبعه بتجارة و عهد رابح أضعافا مضاعفة مع الله سمي بالشهادة في سبيله و هي أقصى و “أنبل” ما قد يطمح له مسلم عبر التاريخ و قد شكل هذا الطابع الجديد تشريعا عمليا ضمن به الإسلام للقبائل العربية التي تدخل في الإسلام و تضع إمكانياتها تحت سلطة محمد، أن تستمر في ممارسة تقليد الغزو و الإغارة سعيا وراء الغنائم و السبي و ما يوفره هذا التقليد من ثروات (راجع تفاصيل غزوتي بني المصطلق و هوازن في هذا الصدد)، و لعل أكثر ما يؤكد هذه الحقيقة هو ما يسمى بفقه الغنائم و هو باب قائم بذاته من بين أبواب الشريعة و يشرح تعريف الغنيمة و الفيء و طريقة تقسيمها بين المقاتلين حسب وضعهم في الغزوة أو المعركة (الخكس للله و رسوله و آل البيت من بعده ثم الباقي يقسم بين الفارس و الراجل و الرامي … )، و هذا الباب من الفقه يستند لآيات محكمة من القرآن توضحه و تفصله في سورة الأنفال كما يلي : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } الأنفال الآية (41).
هذه الخاصية التي تميز بعا فقه الجهاد شكلت دافعا أساسيا لتدافع قبائل الجزيرة للدخول في الإسلام أو بالأحرى في تحالفات و تحت لواء محمد و من جاء بعده، ما دامت قد ضمنت طريقا سهلا لربح و جمع المال و جمع العبيد (الطبقة العاملة في مجتمع مكة و المدينة و الجزيرة قبل و بعد الإسلام)دون نسيان إمكانية السبي و ما يوفره من جواري و ملكات اليمين بدون عدد و لا حساب، و هو طريق يتوافق مع تقاليد هاته القبائل البدوية التي دأبت عليها منذ الأزل، و كيف لا يكون ذلك و نحن نتحدث عن مجتمعات بشرية لم تكن قادرة على إنتاج شيء ذي قيمة غير الترحال و الرعي ثم التجارة بعد أن سعت بعض القبائل للتمدن كما حصل مع بطون قريش و خزاعة و جرهم من قبلها في وادي مكة.
غير أن هذه الثنائية قد تخلخلت بدءا من نهاية القرن السابع عشر الميلادي و بداية القرن الثامن عشر، مع بدء أفول قوة الخلافة العثمانية و بداية الحملة الفرنسية لنابوليون على مصر، و منذ تلك اللحظة إنهار ميزان القوة عند المسلمين لصالح العالم الجديد بنهضته و بثورته الصناعية التي ستأتي بعدها، ففي الحين الذي فضل فيه المسلمون الإرتكان للدين بمفاهيم نكوصية و رجعية جامدة و لا تتحرك، كان العالم ينبض بحركة نهضة شاملة تمتد بين القارة العجوز و الهالم الجديد وراء المحيط الأطلسي، و قد بدأت أولى المفاهيم العلمية و التقنية تتكرس و تأخذ مكانها كثوابت تعتمدها الدول سعيا وراء القوة و السلطة الممتدة، بينما المسلمون ثابتون في مكانهم ينتظرون فتاوى الشيوخ في كل ما جد عليهم، هذا إن لم يعتبروه بدعة و ضلالة مستقرة في نار جهنم، و كيف لمن يقضي سحابة وقته بين الصلاة و الدعاء و النوافل و الذكر و ما إلى ذلك من الطقوس، أن يجد الوقت و لا القدرة و لا الإرادة للتفكير في الإبداع أو البحث أو الإختراع.
إن أبلغ مثال يقفز إلى ذهني حول تخلخل ميزان القوة في إتجاه الضعف في تلك المرحلة بالذات، هو إختراع المطبعة، ففي الوقت الذي عرفت فيه أوروبا هذا الإختراع المعجزة، ظل العالم الإسلامي غارقا في ظلماته طيلة أربعة قرون، حتى دخل نابليون بونابرت لمصر و جلب معه أول مطبعة دخلت بلاد المسلمين، و لعل أكثر ما يترجم هذا الوضع المأساوي هو معركة الجيزة التي هزم فيها الجيش الفرنسي المصريين في أقل من نصف ساعة كما تروي ذلك حوليات الحملة الفرنسية.
و لا زال الميزان مختلا حتى الساعة و لا أمل بإعتداله في المستقبل سواء القريب أو البعيد … !!!
مهدي بوعبيد
22/11/2015