العقل المجرد و النخب الدينية، إنها قصة عداء مطلق و مستميت بين قراءتين مختلفتين للأديان الإبراهيمية، عداء سيستمر طالما إستمرت الأديان في ممارسة تسلطها على العقول بمفاهيم قدسية النص المنزل، و هنا بالذات يكمن الدور الحيوي للعقل كوسيلة تفوق إنساني تمنح الوسائل الكفيلة بتفتيت سياج التقديس المحكم حول الدين بكل مفاهيمه و قيمه و نصوصه و أدبياته.
فالنص المقدس أيا كانت مكوناته لا يصمد للحظة واحدة أمام قدرة العقل على البحث و التمحيص و المساءلة المباشرة، و لهذا تجد النخب الدينية تسعى دوما نحو الإحتفاظ بهالة التقديس تلك، بل و تسعى لإضفاءها على نفسها حتى يتحول رجل الدين نفسه لكائن مقدس حامل لرسالة إلهية يختص بها نفسه كوكيل لله على الأرض كما يقول القرآن (و اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، و بالتالي تمتد سلطته الباطلة نحو عقول الأتباع ليحرم عليهم حتى مجرد محاولة طرح السؤال أو الإستمتاع بإمكانية الشك في ما تقدمه الأديان من يقينيات يختلط فيها الأسطوري بالغيبي و الميتافيزيقي، حتى يتحول العالم الحسي بأكمله إلى مجرد مرحلة عبور لا قيمة لها، في إتجاه ذلك العالم الغيبي الذي يعد به الشيوخ أتباعهم إن إستسلموا لسلطتهم المقدسة بدون جدال.
و بطبيعة الحال يتحول الشك هنا إلى فعل محرم تماما و بنص قطعي لا جدال فيه، كما جاء في الآية 101 من سورة المائدة : (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدو لكم تسؤكم و إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها و الله غفور حليم). هذا التحريم المطلق يستخدمه الفقهاء و الشيوخ اليوم كتهديد دائم مسلط على العقول المتمردة التي تحلم بالتجرؤ على ممارسة متعة الشك في المسلمات، و بما أن الآية تبدأ بنداء صريح للمؤمنين، فما يلي هذا النداء هو تأكيد لربط فعل الإيمان بالإمتناع عن السؤال و إلا فسد إيمان المؤمن بفعل يحوله إلى الكفر البواح و يخرج صاحبه من الملة بدون نقاش، و بذلك تحول عقل المؤمن إلى إسفنجة ميتة تمتص كل ما يخرج من فم رجل الدين و تبتلعه بدون نقاش حتى لو كان منافيا للمنطق و العقل و الفطرة السليمة.
و لعل هذا الجمود العقلي هو ما يحيلنا على مفاهيم عبثية يقف العقل أمامها حائرا و تائها و هو يتساءل عن المدى التأثير السلبي الذي تمثله الأديان على عقول البشر، ففي حالة الإسلام نجد تفاصيل عديدة مخزية و مخجلة و لا تقبلها الفطرة السليمة و لا العقل، لكن مع ذلك يتقبلها المسلم بكل بساطة و دون أن يرف له جفن أو ترتعد خلية واحدة في جسده، ففي حالة العبودية مثلا و التي تعتبرها البشرية اليوم من أبشع و أفظع الممارسات الكارثية التي أصابت الإنسان منذ الأزل، و هي ممارسة مرفوضة تماما اليوم من الجانب الأخلاقي بإعتبارها إهانة و جريمة في حق الإنسان ليس من الممكن القبول بها أو التسامح معها، لكن مع ذلك تجد المسلم يتقبلها بكل هدوء و يتعامل بها دون حرج مع ما تمثله من قمة الخسة و النذالة، أو حتى من جهة تنافيها مع أبسط القيم الأخلاقية و الإنسانية التي يتعارف عليها البشر اليوم (أذكر كل المتحذلقين الذين تمتليء بهم صفحتي بأن العبودية قد إستمرت كممارسة رسمية في مجمل العالم العربي و الإسلامي طيلة 14 قرنا و دون توقف و قد تحولت لتجارة رسمية يمارسها الناس بين مجاهل إفريقيا جنوب الصحراء و مناطق القرن الإفريقي شرق القارة، و كان هؤلاء يدفعون عليها ضرائب ثابتة للحكام و الولاة أينما مرت قوافلهم أو أسواقهم، و آخر أسواق النخاسة الرسمية قد أقفل بإحدى مدن مملكة آل سعود في ستينات القرن الماضي، و لا زالت هناك حتى اليوم أسواف عير رسمية في دول ينعدم فيها تطبيق القانون، مثل نيجيريا و السودان و الصومال و موريتانيا .. ).
و بهذا نرى المسلم يتقبل ممارسة وحشية و لا إنسانية و يتعامل بها دون يتحرك ضميره أو ترفضها فطرته الإنسانية، فقط لأن الدين الذي يتخذ منه منهاجا أخلاقيا مكتملا لا نقاش و لا جدال فيه، يشرعها و يحللها دون إعتراض أو تحريم أو حتى كراهية، إذن فالنسبة للعقل الجامد و الواقع تحت سلطة المقدس الذي تحرم مناقشته لكونه منزلا من عند الله، يتم تحييد كل القيم و المبادئ الإنسانية و الأخلاقية بإعتبارها نتاجا عقليا إنسانيا وضيعا لا قيمة له أمام التشريع الإلهي المنزل من السماء و الذي يبقى مقدسا حتى لو شرع لأبشع الأمور و أفظعها.
إنها معضلة العقل الذي يتم حصاره و الضغط عليه بمنتهى التسلط و يتم منعه من ممارسة الدور الطبيعي الذي وجد من أجله، في تناقض شامل حتى مع فكرة الإختصاص الإلهي لبني البشر بهذا العضو العجيب الذي يصنع المعجزات اليوم، فليس من المنطقي القبول بأن الله قد منح الإنسان هاته القدرة على البحث و التفكير و التحليل و التمحيص، فقط لكي ييحبها منه بعد ذلك بأمر إلهي صريح يمنعه من إستخدامها، مخافة الخروج مما يسمونه ملة و دينا، بحيث يجد الإنسان مفسه أمام وضع عبثي لا يستقيم بأي شكل من الأشكال، و حتى في حالة القبول بفكرة الإله الخالق الذي يمنح البشر كل شيء، فلا أجد تعبيرا عن وجوده أسمى من وجود العقل نفسه.
مهدي بوعبيد
06/10/2015
تعليق واحد على متعة العقل و الشك في مواجهة الأديان
موضوع شيق ورائع كل الشكر والتقدير لك وهذه الحقيقية التي يجب ان يستوعبها الناس ان فرض المسلمات الإلهية كوسيلة لأخماد العقول ظاهرة حطت من قدرنا وتحضرنا امام العالم للأسف