نفس المنطق الذي يجعلك واثقا من أن القرآن كلام الله الذي تحدث به لنبيه المرسل إلى خير أمة أخرجت للناس، هو الذي يجعل الهندوسي مثلا واثقا تمام الوثوق من أن كريشنا او براهما أو ساراسواتي أو فيشنو يتحدثون إليه عبر كتب الفيدا و المهابهاراتا أو البهاجافاد جيتا، أو يجعل اليهودي واثقا من أن التوراة هي كلام يهوه لشعبه المختار.
منطقيا لا يوجد سبب واحد يبرر إقتناعك الضمني بكون الله قد إختار الحديث إلى قومك أنت دونا عن باقي البشرية، بل لا يوجد أي مبرر لكون الله كلي القدرة و العلم و القوة و الرحمة سيلجأ لميزان أفضلية أعوج بهذا الشكل. مبدأ الإختيار و الإصطفاء بالنبوة أو الرسالة الإلهية لشعوب دون غيرها و دون أي سبب منطقي يصيب مفهوم النبوة في مقتل، لأنه يخلق من أسباب الفرقة و النزاع و الصراع و العنصرية بين الشعوب، ما هو كفيل بهدم أية قيمة روحية إيجابية تحملها الأديان الإبراهيمية، و لعل صفحات التاريخ و كمية الحروب و الدماء البريئة التي أريقت بين أتباع المسيحية و اليهودية و الإسلام بناءا على مفهوم الشعب المختار أو المفضل عند الله، كفيلة بإثبات حجم الكارثة الراقدة في لا وعي قطعان الأتباع و المؤمنين.
في حالة الإسلام مثلا، يبين السياق التاريخي للأحداث التي سبقت و رافقت و تلت بداية البعثة المحمدية بأن مسألة الإختصاص الإلهي لشخص من قبيلة قريش بالذات لكي يحمل رسالة الله للعالمين (لاحظ معي أن كلمة العالمين هنا تشمل كل شيء، بل و تتجاوز حتى حدود البشرية نفسها لما وراءها من مخلوقات و كائنات أخرى)، لا تعتمد على أي منطق عقلاني ثابت، بحيث يبدو الله هنا و كأنه قد دخل في مسلسل طويل من التجارب عبر الأنبياء و الأديان الذين توالوا لآلاف السنين وسط بني إسرائيل بالخصوص، ليقرر في لحظة واحدة أن يرمي وراء ظهره كل المفاهيم و القيم و التكليفات التي إختص بها من سماهم شعبه المختار، و أكد لهم في أسفار التوراة بأنهم شعب الأسياد الذين سيحكمون الأرض بسلطته و قوانينه المغرضة في الصرامة و العنف و العنصرية، بينما باقي الأمم (الغوييم أو الأغيار) هم عبيد لهم يشتغلون و يعملون من أجل راحة شعب الله المختار. لكي يبعث بنبي جديد من وسط قوم بني إسرائيل دائما، لكنه بعث بكلمة الله الوحيدة و بروح منه للبشرية بأسرها و هو عيسى المسيح الذي سمى قومه و أتباعه بملح الأرض، لكن فيما يبدو فإن الله قد تخلى عن نبيه المفضل حتى ذلك الوقت، و ترك قومه يضطهدونه و يقومون بتعذيبه و صلبه و قتله، لكي يكون عذابه و موته فداء للبشرية بكامل خطاياها بدون إستثناء، ليعود بعد حوالي 6 قرون و يقرر وضع كل ما سبق على الرف، ليبعث بنبي جديد و رسالة مختلفة و دين آخر تماما، دين يمسح كل ما سبقه و جاء قبله، دين موجه للعالمين و يهددهم بأن أي دين آخر غيره لن يقبل من عباده يوم القيامة.
قد يقول قائل أن الأديان الإبراهيمية كلها تتشابه من حيث قيمها التي تعتبر سيرورة واحدة تلتقي فيها مفاهيم الأخلاق و المباديء و الخير المطلق، و قد يكون هذا صحيحا لحد ما، لكن العقل في نفس الوقت سيعجز عن إستيعاب هاته السيرورة العجيبة، ففي الوقت الذي خاطب فيه الله بني إسرائيل و سماهم شعبه المختار، و حررهم من جبروت فرعون و نبوخذنصر، نجده يأمر بني شعبه بإضطهاد و قتل و إستعباد كل الشعوب و الأمم التي إستوطنت الأرض التي وعدهم بها بحيث نقرأ في التوراة ما يلي :
في اقتحام أريحا “وحرَّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف.. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها” (يش 6: 21، 24).
عند اقتحام عاي “ودخلوا المدينة وأخذوها وأسرعوا وأحرقوا المدينة بالنار.. فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء أثنى عشر ألفًا جميع أهل عاي. ويشوع لم يرَّد يده بالمزراق حتى حرَّم جميع سكان عاي.. وأحرق يشوع عاي وجعلها تلًا أبديًّا خرابًا إلى هذا اليوم” (يش 8: 19-28).
في سفر يشوع تتكرَّر عبارة (الضرب بحد السيف وتحريم كل نفس حتى لم يبقَ شارد) بمعنى أو بآخر وذلك في اقتحام مقيدة، ولبنة، ولخيش، وعجلون، وحبرون، ودبير، وكل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح (راجع يش 10: 28، 30، 32، 35، 37، 38، 39، 40).
في اقتحام حاصور ” ضربوا كل نفس بحد السيف. حرَّموهم ولم تبقَ نسمة. وأُحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف. حرَّمهم كما أمر موسى عبد الرب” (يش 11: 11، 12)(1).
{الرب رجل الحرب} (خر 15: 3).
{احرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار} (عد 31: 10).
{اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة} (عد 31: 17).
{احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار} (تث 12: 31).
{فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك} (تث 13: 15، 16).
{وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما} (تث 20: 10 – 16)
ليعود بعد ذلك و يتحول لعدو مطلق لشعبه المختار الذي عذب و صلب و نكل بكلمته الطيبة المسيح عيسى بن مريم، قبل أن ينقلب بعد ذلك بإتجاه أمة أخرى تختلف عن كل ما سبقها ليختصها برسالته النهائية و الأخيرة التي قرر بعدها أن يصمت أبد الدهر و يقطع صلته بمخلوقاته، لكن قبل هاته القطيعة لم ينسى أن يمنح هاته الأمة سلطة فرض الدين النهائي أو النسخة الأخيرة المنقحة و المزيدة من الأديان السابقة، و لو بحد السيف و القتل … !!!
يبدو الله عبر كل هذا المسار مثل عالم تائه بين تجارب فاشلة داخل معمل كبير يتجاوز قدراته العلمية، فهو يبعث برسله و أنبياءه و ملائكته و كتبه المقدسة لشعوب و أمم بعينها دونا عن غيرها، و دائما في نفس المنطقة الجغرافية المسماة بالشرق الأوسط، و كأنه لم يخلق أمما أخرى غير تلك الملعونة التي سكنت هاته المنطقة الموبوءة بمفهوم القداسة المطلقة في كل شيء،التراب و الأبنية و المعابد و المقابر و الأشخاص، حتى أولئك الذين لم يحفل بهم التاريخ و لو بنقش عابر على حائط معبد منسي، ثم يعود في كل مرة ليمسح رسالته السابقة و يعوضها بأخرى جديدة و مختلفة، و كأن الخلطة تفسد في كل مرة فيضطر لعادتها من جديد.
إن الله الذي يحتاج الأنسان للإعتقاد به و برحمته و قدرته المطلقة لا يمكن أن يكون عنصريا لهذه الدرجة المقيتة، و لا يمكن أن يحابي شعبا ضد آخر أو يتبنى امة ضد باقي الامم و لا أن يخلق أسباب الفرقة و البغض بين بني البشر من أجل أسباب واهية بعيدة كل البعد عن قيم الأخلاق و الخير و المباديء النبيلة التي يحلم بها كل البشر.
مهدي بوعبيد
13/08/2015
4 تعليقات على لم يختر الله أحدا … !!!
لقد أوجزت فأبدعت أستاذ مهدي. كلّ التحيّة و التقدير و الإعجاب.
شكرا لك صديقي طارق ..
ظهور الأديان والمذاهب الدينية بين البشرية أتت من جراء ملء الفراغ النفسي عند البشرية، نرى اليوم كلما تقدمت العلم والتكنولوجيا (جزء منه لخدمة البشرية وجزء آخر هي عملية رأسمالية من أجل تفريغ الجيوب) أبتعدت الناس عن الدين وأنشغلت أكثر بأمور الدنيا.
وبعد الأسلام أيضا ظهرت البهائية وبحسب قولهم هم أمتداد لسلسلة الأديان السماوية التي ظهرت قبلهم.
وهدفي من الكلام…
لايوجد دين خاص بالبشرية وكل الشعوب الأرض حسب ثقافتهم وتطورهم أنتجت دين معين حسب حاجته وضروريته.
مثال ” الهدف الأساسي من ظهور الأسلام هو توحيد القبائل العربية في السعودية الآن و نقل المنطقة الى مركز تجاري وستراتيجي امام الأمبراطوريات الأخرى تحت راية دين ليس بين العامة كما نعلم إن القبائل العربية لم تكن متناسقة أو متحابة فيما بينهم.
تدوينة تنويرية مهمة، شكراً.
علاقة بالموضوع :
خطاب القرآن الكريم خاص بقوم الرسول وبزمانه.
http://mussaylimah.blogspot.com/2016/02/blog-post_22.html