إن إحتقار الكهنوت الإسلامي لباقي الأديان لكونها إما محرفة أو مبنية على مجموعة من الأساطير القديمة و الخرافات التي لا يوجد لها إثبات مادي ملموس، يجعل الإسلام يظهر و كأنه مثبت علميا بتجارب مخبرية موثقة و مؤكدة، بينما الحقيقة هي أنه يحتضن في طياته نفس الحمولة الأسطورية و نسبة كبيرة من الخرافات و المرويات القديمة التي إقتبسها من حضارات و أمم و شعوب سبقته بآلاف السنين، بل حتى الفكرة الرئيسية المتمثلة في البعث بعد الموت و الحساب و المكافأة بالجنة أو العقاب بالجحيم ليست خاصة بالإسلام أو بالأديان الإبراهيمية، بل هي موروث أسطوري قديم عرفته شعوب و حضارات سبقت ظهور الأديان بآلاف السنين، و لعل أبرز أسطورة تهتم بمفهوم البعث و الحساب هي تلك التي وردت بالتفصيل في ما ييمى بكتاب الموتى الفرعوني و الذي يعرف أيضا ببردية “حونفر”.

جزء من بردية "حونفر" Hunefer (حوالي 1275 قبل الميلاد) تبين عملية وزن قلب حونفر في الميزان والمقارنة بريشة ماعت (الحقيقة والعدل) ويقوم بها الإله أنوبيس, بينما يقوم الإله تحوت بتسجيل نتيجة الميزان.

هذا الكتاب يتكون من مجموعة مفصلة من التعاويذ و التمائم السحرية التي كانت تنقش على جدران المقابر أو على التوابيت و ذلك إبان عصر الدولة القديمة (ما بين 2780 ق.م و 2263 ق.م)، لتتحول إلى بردية مكتوبة خلال عصر الدولة الوسطى و الحديثة (ما بين 2134 ق.م و 1069 ق.م)، حيث تكتب نصوص التعاويذ و توضع البردية في التابوت إلى جانب المومياء.

و قد كان كل مصري قديم ذو شأن معين حريصا على تكليف الكهنة خلال تحنيطه و دفنه بتجهيز كتاب الموتى الخاص به، بحيث يذكر فيه إسمه و إسم أبيه واسم أمه ووظيفته في الدنيا، وذلك إستعدادا ليوم وفاته وتجهيز طقوس نقله إلى مقبرته، و لم يكن هذا الأمر متوفراً لكل المصريين ﻷنه مكلف جدا لذلك إختصت به طبقة معينة من النبلاء و الموظفين و خدام الآلهة في المعبد.

تلك التعاويذ و التمائم التي يحملها الكتاب هي تعليمات إرشادية تمكن الميت من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادف روحه في أثناء رحلته إلى الحياة الأخرى، وتدله أيضا على الوسائل التي يتعين عليه أن يستخدمها ليتمم هذه الرحلة بنجاح من دون أن يتعرض لأي سوء.

توجد في كتاب الموتى عادة صورة لأوزيريس جالسا على عرشه في الآخرة وإلى الخلف تستند إليه أختاه إيزيس ونفتيس، وأمامه أبناء إبنه حورس الأربعة الصغار ليساعدوه في حساب الميت. و قد كان تصور المصري القديم أن الإله حورس سوف يأتي بالميت بعد نجاحه في اختبار الميزان ويقدمه إلى أوزيريس، ويُعطى لباسا جميلا ويدخله إلى الحديقة الغناء “الجنة”، و قبل ذلك لا بد من أن تتم عملية وزن أعمال الميت في الدنيا عن طريق وضع قلبه في إحدى كفتي الميزان وتوضع في كفة الميزان الأخرى ريشة “ماعت” وهي رمز “العدالة والأخلاق السوية”، فإذا كانت الريشة أثقل من قلب الميت، فمعنى ذلك أنه كان شخصاً طيبا في حياته و على خلق كريم فيأخذ ملبسا جميلا ويدخل حديقة “الجنة” حيث حقول الفردوس تتخللها الأنهار من تحتها ليعيش فيها راضيا سعيدا أبد الآبدين. أما إذا ثقل قلب الميت عن وزن الريشة فمعناه أنه قد كان في حياته شخصاً شريرا، و عندئذ يُلقى بالقلب وبالميت إلى حيوان خرافي يكون واقفا بجوار الميزان – اسمه “عمعموت” – رأسه رأس أسد وجسمه جسم فرس النهر وذيله ذيل تمساح – فيلتهمه هذا الحيوان على التو وتكون نهايته.

محكمة الموتى, في الصف العلوي حيث يمثل الميت أمام محكمة مكونة من 42 قاضيا للإعتراف بما كان يفعله في حياته.

في جزء آخر من البردية يظهر الميت و هو يمثل أمام ما يسمى بمحكمة الموتى و هي مكونة من 42 قاضيا للإعتراف بما كان يفعله في حياته، في مقدمتهم رع-حوراختي”. ونرى إلى اليمين أسفل منهم أوزيريس جالسا على العرش وخلفه تقف أختاه إيزيس و نفتيس وأمامه الأبناء الأربعة لحورس واقفون على زهرة البردي وقد قاموا بالمحافظة على جثة الميت في القبر، ثم يأتي حورس بالميت لابسا ثوبا جميلا ليمثل أمام أوزيريس ويدخل بعد ذلك الجنة. إلى اليسار نرى أنوبيس يصاحب الميت لإجراء عملية وزن قلبه، و في الوسط منظر عملية وزن القلب حيث يقوم الإله أنوبيس بوزن قلب الميت ويقارنه بريشة الحق “ماعت”، بينما يقف الوحش الخرافي “عمعموت” منتظرا التهام القلب إذا كان الميت خطاء عصيا، وفي نفس الوقت يقوم “تحوت” (إله الحكمة الذي علم المصريين القدماء الكتابة و الحساب) بتسجيل نتيجة الميزان بالقلم في سجله الأبدي.

و من الأجزاء الأساسية في كتاب الموتى دعاء خاص يدافع به الميت عن نفسه (ويسمى الاعتراف بالنفي)، حيث يقول :

“السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك ياإلهي خاضعا لأشهد جلالك، جئتك ياإلهي متحليا بالحق، متخليا عن الباطل، فلم أظلم أحدا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين ولم تضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي ولم تمتد يدي لمال غيري، لم أكن كاذبا ولم أكن لك عصيا، ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده. إني (ياإلهي) لم أوجع ولم أبك أحدا، وما قتلت وما غدرت، بل وما كنت محرضا على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئا مقدسا، ولم أغتصب مالا حراما ولم أنتهك حرمة الأموات، إني لم أبع قمحا بثمن فاحش ولم أغش الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئا من الآثام، فاجعلني ياإلهي من الفائزين.”

نصين لمقولة الأبواب. في صف الرسوم العليا نجد "أني" وزوجته يواجهان سبعة أبواب لبيت أوزيريس. وفي صف الرسوم السفلي الزوجان يدخلان بيت أوزيريس من حقل الأشجار ويقابلون 10 من 21 من الأسرار السماوية وتقوم بحراستها كائنات شرسة كل واحد منها في صومعته.

يبين لنا كتاب الموتى لدي قدماء المصريين العقائد الدينية التي كانت تشغلهم طوال حياتهم. فلم يكن الموت لديهم جزءا لا ينفصل عن الحياة فقط وإنما كان لدى الناس آنذاك مفهوم آخر عن الموت والحياة الأخرى لا يختلف كثيرا عما نعتقده اليوم، و إن كنا نرى الموت كحتمية مرعبة نتحاور التفكير فيها و الحديث عنها، فقدان المصريين كانوا ينظرون إليه كجزء لا يتجزأ من مفهوم الحياة، و يستعدون له كما يجب للعبور نحو الحياة الأخروية، و هنا يأتي دور كتاب الموتى بما يحتويه من تعاويذ وتوجيهات للميت، تساعده على البعث والانتقال إلى الآخرة حيث يعيش فيها مثلما كان يعيش على الأرض ولكن بدون أمراض ولا تعب و لا كبر في السن، بل يكون في الآخرة رفيقا للآلهة يأكل ويشرب معهم في بعض المناسبات.

وهدف الميت كان الوصول إلى الحياة الأبدية في العالم الآخر، و رغم أن التصور لم يكن منطقيا لدى بعض الشعوب في تلك العصور، لكن تصور المعيشة في الآخرة لدى قدماء المصريين هو أن الميت الذي فعل صالحا في حياته وكان أمينا وصادقا يساعد الفقير والجوعان والعطشان، ويساعد الأرامل واليتامى، كان مثل هذا الإنسان يعيش طبقا لما أرادته له الآلهة من ” قواعد حياة سوية، ونظام عادل”، و من هنا يتك وزن قلبه و أعماله طبقا لما رمز له النظام المصري القديم ب “ماعت” آلهة الحق والعدل و النظام الكوني.

كتاب الموتي يحتوي على عدة فصول، تصف وتشير إلى الآتي :

- وقاية الميت من الشياطين والأرواح الشريرة والثعابين وغيرها.
- تعرف الميت عند البعث الطريق إلى الآخرة.
- تساعده على عبور بحر النار، والصعاب التي تهدده.
- تسمح له بالتردد بين العالم الأرضي والعالم الآخر.
- تساعده على الحياة في الآخرة.
-تساعده على الحصول على الماء والغذاء وتلقي الهبات والأضحية، وعطائها في العالم الآخر.
- تساعده على معرفة الأماكن في الآخرة، وتذكر أسماء الآلهة والأسماء الهامة (مثل إسم باب الآخرة).
- تساعده على معرفة الأبواب وأسمائها وتعاويذ فتحها والمرور منها والوصول إلى الآلهة وتعريف نفسه إليهم.

ورغم وجود بعض الإختلافات بين تصورنا في الحاضر عن الحياة الآخرة و رؤية الحضارات القديمة لمسألة الحياة بعد الموت، فلا نستطيع أن ننكر أنه توجد بين معتقداتنا ومعتقدات المصري القديم تماثلات كبيرة، ففي حين كان قدماء المصريين يعتقدون في البعث والمثول أمام هيئة قضائية مشكلة من 42 قاضيا يعترف الميت أمامهم بأنه لم يسرق، ولم يقتل أحد، ولم يكذب، ولم، ولم، وكل ما لم يكن يفعله من سيئات في حياته في الدنيا، نجد أن الديانات الإبراهيمية الثلاث التي ظهرت بعد الحضارة المصرية القديمة، تتفق بكل مذاهبها و توجهاتها على فكرة رئيسية يقوم عليها مبدأ الإيمان، و هي مسألة البعث بعد الموت و الحساب بين يدي الإله الخالق لكل شيء، و إذا ما أزيلت هاته الفكرة الأساسية، ينهار بناء الأديان كليا، و تنتفي الحاجة إلى الإيمان بالآلهة، ما دامت لن تعيد تصحيح الموازين المختلة في الحياة الدنيا و تقيم العدل المطلق و الأبدي في الآخرة و تكافئ الطيبين و تعاقب الأشرار.

كما ترون فإن التشابه بين الأساطير المصرية القديمة و ما تذكره الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية فيما يخص مفهوم الحياة الآخرة و البعث بعد الموت و الوقوف بين يدي الآلهة من أجل الحساب و المكافأة أو العقاب على ما سبق من حياة الإنسان، يصل إلى درجة من التشابه تتجاوز حدود التناص الأدبي، إذ يبدو من الواضح و المؤكد اليوم أن الأديان الإبراهيمية قد إقتبست هاته التفاصيل بحذافيرها لتغير فقط تعدد الآلهة بمفهوم التوحيد و تترك الباقي كما هو في غالبيتهم.

و يبقى السؤال الأزلي مطروحاً من جديد : من إقتبس من الآخر … ؟؟!!!

ملحوظة : بردية حونفر (Papyrus of Hunefer), تخص الكاتب الخاص للفرعون سيتي الأول و قد كان إسمه حونفر و يعتقد أن البردية تعود للعام 1300 قبل الميلاد، و هي موجودة حاليا في المتحف البريطاني.

مهدي بوعبيد
23/06/2015