هناك قاسم مشترك مهم فيما بين الديانات الإبراهيمية، و شخصياً أعتبره دليلاً قوياً على فشلها الذريع في خلق أية قدرة تغييرية إعجازية بالشكل الذي تدعيه أدبياتها و نصوصها المقدسة التي تملأ فضاء هذا الكوكب ضجيجا، هذا القاسم المشترك يتمثل في كونها تضع كل من يؤمنون بها أمام وعود كثيرة و متعددة لا حصر لها بالحصول على مكافآت سخية جدا و أبديةً فيً الحياة الأخرى بعد الموت، إن هم إمتثلوا للائحة طويلة من القيم النبيلة و المباديء و الأخلاق، و هي نفسها التي يتفق كل البشر فيما بينهم على كونها في الأصل قيما فطرية لدى الإنسان، و بالتالي عوض أن يتصرف على فطرته و يتبعها، يجد نفسه خاضعا لعملية ترويض تشبه تلك التي تستخدم مع حيوانات السيرك، أي أن كل ما يقوم به من أعمال خيرة و جيدة يكون بدافع وحيد و هو الحصول على المكافأة الإلهية الموعودو أولا، قبل النزوع الغريزي نحو الخير و الطيبة و الرحمة، فتصبح تلك الرغبة الطفولية الملحة في الوصول إلى الجنة للتعويض عن كل مآسي الحياة الدنيا الكئيبة هي الدافع الرئيسي نحو الخير، مما يعني تحطيم البوصلة الأخلاقية الإنسانية التي تدفعنا طبيعياً نحو الخير و المحبة و المودة تجاه الآخرين.

المشكلة في مسألة المكافأة الإلهية، هي أنها لا تلبث أن تأخذ إتجاها آخر أكثر عنفا و سوريالية، في اللحظة التي تأمر فيها الأديان أتباعها بممارسة أفعال شريرة و مقيتة تتخطى كل مستويات البشاعة و الفظاعة، و تقع في تعارض تام مع تلك النزعة الفطرية نحو الخير، كأن تأمر بالقتل أو الحرب أو الغزو و السبي و السلب و النهب (هناك نصوص دينية إسلامية تحدد حتى نسب توزيع الغنائم المسلوبة بعد الغزو و من بينها حديث يعد الغزاة بجمال نساء اللواتي سوف يتم سبيهن بعد الهجوم على منطقة بعينها ..)، أو أن تتجاوز مسألة الدعوة المباشرة للدخول في الدين إلى قتل المخالفين و التنكيل بهم و التشريد بهم من خلفهم، لتأمر بالذبح و النحر و ضرب الأعناق، بل و في حالات أخرى يصل الأمر إلى الترخيص بإستخدام التعذيب للحصول على أموال الأعداء (هناك حديث نبوي آخر يروي و يؤكد هذه النقطة بالذات)، و كل ذلك لقاء مكافآت إلهية أكثر بكثير مما يحصل عليه ذلك المؤمن “العادي” الذي قد يكتفي بممارسة الشعائر الدينية و الطقوس التعبدية (راجع كل الأحاديث التي تصف مكانة الشهيد في الجنة و قيمة الجهاد و الغزو في سبيل الله).

نفس القصة تتكرر في الديانات الإبراهيمية الثلاث عبر مراحل تاريخية مختلفة، حيث نجد كل تلك القيم الإلهية النبيلة لا تلبث أن تختفي سريعاً تحت طبقات من النسيان، لتحل محلها دعوات الحرب و القتال و العنف تجاه كل المخالفين، و في كل مرة نجد المبررات جاهزة سواء من الإنجيل أو التوراة أو القرآن، بنظرة سريعة على تاريخ اليهودية و المسيحية و الإسلام، سوف يجد الباحث نفسه أمام شلالات منهمرة من الدماء و القتل بإسم الله و الأنبياء و دعواتهم و رسالاتهم، و في كل مرة سوف يجد كما هائلاً من الأوامر الإلهية الواضحة و الثابتة التي تمنح المبررات المقدسة جدا لهاته الأفعال الوحشية، فيتحول المؤمنون  من حالة الطمأنينة و الراحة النفسية التي يمنحها الفعل الإيماني إلى قطيع من القتلة المجانين الذين يبرر لهم الدين بنصوصه جرائمهم و يمنحهم الطمأنينة بأن الله راض عن كل ما يقومون به، بل و في أحيان أخرى وصل الأمر حدوداً من السخرية الشيطانية جعلت الكهنوت يشرح حتى للضحايا سبب قتلهم و كأن الله هو من أراد ذلك لكي يستقيم العالم للمؤمنين لوحدهم، و يخلو من كل من يخالفهم و يتعارض مع معتقداتهم.

عندما أتصفح تفاصيل التاريخ في هذه النقطة بالذات، لا استطيع منع نفسي من التأكيد على نقطة مهمة جداً، حيث لا يمكن مواجهة هاته القدرة العجيبة لدى الأديان لتحويل الإنسان إلى قاتل دموي بإسم الله إلا بخطوة واحدة يتبناها كل العقلاء، و هي إسقاط ثوب القداسة المهتريء أصلا و المرتبط بامتلاك الأديان حصريا لكل أشكال الحقيقة المطلقة في كل شيء، عندما يعي الإنسان أن القداسة يجب أن تكون لمن يقدس الإنسان أولاً، عوض تقديس من يأمر بقتله و ذبحه و نحره، سوف تفقد الأديان قدرتها على إنتاج الشرور و إيقاظ النزعات المتوحشة في دواخل البشر.

من بقرأ تاريخ المسيحية منذ أن تحولت للديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور قسطنطين وصولا إلى بداية أفول سلطتها الشريرة و الدموية (التي احددها شخصيا في تأليف الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري Dante Alighieri لملحمته الرائعة : الكوميديا الإلهية Divina Commedia عام 1308)، سوف يعي تماماً ما الذي أعنيه بإسقاط ثوب القداسة، هاته القداسة التي ما إن تنهار و تتحطم، حتى تعود للإنسان قيمته الحقيقية، لا كتابع ضعيف و خائر القوى لسلطة الكهنوت و المؤسسات الدينية التي تتلاعب به مثل الدمية الفاقدة لأية إرادة، بل كقيمة مطلقة تحدد مصيرها و مسارها بنفسها و بإرادتها الكاملة.

مهدي بوعبيد
29/05/2015