لقد باتت الإكتشافات الأثرية القديمة اليوم تؤكد بشكل مطلق تناقل قصص الأديان في شكل أساطير في ما بين عدة حضارات،  و لا نملك أمام هذا المعطى إلا أن نتساءل و بجدية عن مدى صحة ما ورد إلينا في الكتب المقدسة للأديان الإبراهيمية، أحد أعمق هاته الأساطير من ناحية المعنى و التفاصيل هو ما يسمى بقصة الخلق الأولي.

أول ذكر لهاته القصة ورد في ملحمة “الإينوما إليش – Enuma Elish” و هي ملحمة بابلية قديمة و موروثة عن أساطير سومرية أقدم بحيث تعود في أصلها ﻷكثر من 5000 سنة (3000 سنة قبل الميلاد)، وُجدت هذه الملحمة مدونة على أقراص طينية في منطقة نينوى من طرف العالم الأركيولوجي البريطاني Austen Henry Layard في مكتبة الملك آشوربانيبال هو آخر كبار ملوك الإمبراطورية الآشورية في منطقة نينوى شمال العراق (بالقرب من الموصل الحالية)، و الملحمة كتبت في شكل نص شعري مكون من حوالي 1000 سطر بالكتابة المسمارية على سبعة ألواح، لنقرأ معا ما كيف فسرت أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية حتى اليوم، مسألة الخلق الأولي للعالم و الكون :

” كان العالم مجرد فوضى تتمثل بغمر مائي و منها انبثقت الآلهة، ثم بدأت هذه الآلهة الجديدة بالدعوة إلى تنظيم العالم فغضبت الفوضى المائية على هذا الإتفاق (الفوضى المائية تمثلها الآلهة “تيامات – Tiamat” أو المياه المالحة بينما يمثل زوجها “أبسو – Apsu” المياه العذبة”)، و بعد صراع أدى لمقتل أبسو بدأت الآلهة تيامات معركة الانتقام لمقتل زوجها، كان التقدم في هاته المعركة للإلهة تيامات حتى جاء الإله “مردوخ – Marduk” حفيد أبسو و تيامات نفسهما و أصبح قائد التمرد بقوته و إمكانياته التي لا تشبه أيا من الآلهة الأخرى، و قام بشق تيامات “المياه المالحة” إلى نصفين، فجعل نصفها السفلي هو الأرض و العلوي هو السماء”

طه باقر : مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة صفحة 453.

لنقرأ الآن ما الذي تقوله التوراة في قصة الخلق :

تروي التوراة قصة الخلق في الإصحاحين الأول و الثاني من سفر التكوين، و تتألف قصة الخلق من ثمانية أوامر إلهية نفذت في ستة أيام و تبعها يوم سابع للراحة، نقرأ فيها ما يلي:

” و كانت الأرض خربة و خالية، و على وجه الغمر ظلمة، و روح الله يرف على وجه المياه، و قال الله : ليكن جلد في وسط المياه، و ليكن فاصلا بين مياه و مياه، فعمل الله الجلد، و فصل بين المياه التي تحت الجلد و التي فوق الجلد، و كان كذلك، و دعا الله الجلد سماء “

ثم لنقرأ الآن ما الذي يقوله النص القرآني في قصة الخلق الأولي :

” و هو الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء ” سورة هود، الآية 7

” أو لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما ” سورة الأنبياء، الآية 30

يقول الطبري في تفسيره : ” عنى بذلك أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء”

هذا فيما يخص الخلق الأولي، لنرى الآن ما الذي تذكره الملحمة في قصة خلق الإنسان:

” قال الإله “إنكي – Enki” و هو إله الحكمة و السحر ﻷمه “نامو – Nammu” :

” إن الكائنات التي إرتأيت خلقها ستوجد و سوف نصنعها على شبه الآلهة، فأغرفي حفنة من طين فوق المياه، و أعطها للحرفيين ليعجنوه و يكثفوه، و بعد ذلك قومي أنت بتشكيل الأعضاء، عندها ستقف جانبك كل ربات الولادة، و تقدرين للمولود الجديد مصيره يا أماه “

” ثم عندما رفع الإله مردوك السماء نثر على صفحتها الكواكب. ثم قسم السنة إلى شهور وجعل لكل شهر ثلاثة كواكب. كما جعل لإله القمر حكم الليل وإضاءته، ومنحه كل شهر يوماً يستريح فيه. وقدر مردوك أن الآلهة كانت في حاجة إلى من يصلي لها ويعبدها، فانحنى مردوك على الأرض وشرع يعجن “التراب” بدمائه ويصنع من “الطين” ناساً تقوم على خدمة الآلهة والصلاة لهم “

المصدر : Sumerian Mythology – Samuel Noah KRAMER.

إذن فحسب الأساطير السومرية و البابلية القديمة (و هي أقدم من الأديان الإبراهيمية بآلاف السنين) فالإنسان قد خلقته الآلهة من طين و جعلته على صورتها، و وضعت فيه الحياة من الماء و قدرت له حياته بالتفصيل و كتبت ذلك على ما يسمى بلوح القدر لدى السومريين.

فماذا يقول القرآن في هذا الباب :

” و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ” سورة المؤمنون، الآية 12

“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” سورة الحجر، الآية 26

” و ما من دابة في الأرض إلا و على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل في كتاب مبين ” سورة هود، الآية 6

و يروي البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين و فيه عن محمد بن عبد الله : ” كان الله و لم يكن شيء غيره، و كان عرشه على الماء، و كتب في الذكر كل شيء، و خلق السماوات والأرض. “

و قال الحافظ بن حجر في تفسيره أن المراد بالذكر هنا : ” هو اللوح المحفوظ”.

و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ” خلق الله آدم على صورته “.

نرى مما سبق كيف تروي ملحمة “إينوما إليش” البابلية قصة الخلق الأولى, و عندما تقرأ عن حاجة الإله “مردوك” لخلق البشر لخدمة الآلهة و عبادتها و الصلاة إليها, لا تملك إلا تقارن سبب خلق البشر هنا مع سببه في القرآن، حيث جاء في في سورة الذاريات في الآية 56 : ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”.

الشيء المثير في دراسة الأساطير السومرية و البابلية التي سبقت ظهور الديانات السماوية بآلاف السنين, هو أنك تجد نفسك أمام إقتباسات كاملة تم أخذها من هاته الأساطير و إضافتها لمحتويات الكتب المقدسة الثلاث (التوراة, الإنجيل, القرآن)، مع تغيير بسيط في الألفاظ و الكلمات لكن المعنى الرئيسي يبقى ثابتا من نص إلى الآخر.

نستنتج مما سبق إذن أن الأساطير السومرية و البابلية القديمة قد سبقت الأديان الإبراهيمية بآلاف السنين في ذكر تفاصيل مهمة عن كيفية رؤيتها لمسألة الخلق الأولي، صراع و حروب بين الآلهة، انتهى بخلق الأرض و السماء و الإنسان فيما بعد، و ما أتت به الكتب المقدسة فيما بعد من تفسيرات لنفس المسألة، ليس إلا سيرورة متواصلة لما كان متوفراً من معارف بشرية حينها، و فيما يخص الأديان الإبراهيمية فهاته السيرورة قد بدأت مع كتابة أحبار اليهود للتوراة إبان سبيهم في بابل من طرف الملك العظيم نبوخذ نصر، و بالتالي فقصة الخلق التي وضعت في التوراة ليست إلا إعادة لمجموعة من الأساطير البابلية المتناقلة بين كهنة الإله “مردوك” في بابل آنذاك، و بما أن اليهودية تعتبر هي المصدر الرئيسي للديانات الإبراهيمية، فالمسيحية قد أخذت عنها نفس التفسير و السيرورة نفسها قد تواصلت فيما بعد مع الإسلام.

الأديان الإبراهيمية عامة في رؤيتها للكون و العالم و الإنسان، لا تملك تفسيراً منطقياً أو عقلانيا مقبولاً لمسألة الخلق الأولي، و هي لم تأت بشيء جديد في هاته النقطة رغم الإختلافات الطفيفة فيما بينها، إنما أعادت اجترار نفس الأساطير القديمة كما عرفها و توارثها البشر فيما بينهم في شكل مرويات شفهية و ملاحم أسطورية، أو أناشيد دينية يتناقلها الكهنة في المعابد أو تجتمع حولها القبائل و ترويها فيما بينها تخليدا لتراث غابر يتناقل عبر القرون و الأزمان، و مع كل حضارة جديدة يتم إعادة نظمها و تنميقها و إدخال آلهة و شخوص جديدة عليها، قبل أن يتم إعتمادها كتفسير مقدس للعالم منذ بدء الخليقة، بعد أن أضفت على الآلهة المتعددة (يتجاوز عدد الآلهة في بلد الرافدين حينذاك 4000 إله)، صفة الوحدانية، أي الإله الواحد.

الأديان الإبراهيمية ليست إذن إلا مرحلة واحدة من مراحل تطور الوعي البشري عبر التاريخ، بدءا من عبادة سيد القبيلة ( The Alpha Male في المجتمعات الحيوانية التي تعيش في قطعان تعتمد تراتبية اجتماعية معينة)، ثم مروراً عبر الفترة التي يعبد فيها الطوطم كتمثيل لروح سيد القبيلة بعد موته، إلى مرحلة الخوف من الظواهر الطبيعية الغير مفهومة و التي نتجت عنها عبادة الشمس و القمر و الرياح و البراكين و النار، وصولاً إلى مرحلة تجسد الإله في صفات معينة و مظهر فيزيائي (الأصنام و قصص البطولة و صراع الآلهة فيما بينها)، و انتهاء بمرحلة الغيبيات التي توحدت فيها أساطير الآلهة القديمة في إله واحد له السلطة المطلقة على البشر والكون ككل، لكنه و بكل غرابة، يتشابه في كل الصفات مع الآلهة العديدة التي سبقته ﻵلاف السنين و تسلط كهنتها بنفس المنطق الغيبي و الخرافي على بني البشر، تماماً كما يحدث اليوم.

أعلم تماما ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لأمة يرتكز وجودها اليوم على خرافة الإنتماء العقائدي, قبل الإنتماء الإنساني الذي يبقى أكثر شمولية و ثبوتا من كل المفاهيم التي تفرضها الديانات الإبراهيمية.

مهدي بوعبيد

25/05/2015