الفهم الغيبي و الخرافي لهذا العالم ما هو إلا وسيلة جبانة تتشبث بها المجتمعات الفاشلة لكي تهرب من الواقع المخزي الذي تعيشه في شكل عجز تام عن التعاطي مع معطياته و مواجهة تحدياته و إلتزاماته، هذا العجز تتم ترجمته لمفاهيم عبثية من قبيل ” هذه الدنيا فانية و ما عند الله خير و أبقى ” جملة مطاطية تصلح للمواساة العابرة و لتبرير كل الكوارث و المآسي التي يمكن تخيلها، إنه ذلك الإعتقاد بالفردوس الغيبي الذي سوف يتم فيه تقويم كل الإختلالات التي يعيشها الإنسان في عالم كان دائما مبنيا على غياب المساواة و العدالة بين البشر منذ الأزل … !!!
هذا الفهم الأعوج للعالم يتعارض مع أية إمكانية للتطور أو الإرتقاء عبر سبل الإبداع و الإنتاج التي تتبعها البشرية اليوم، و تشكل الأساس الصلب الذي تسير فوقه قاطرة التطور العلمي و التكنولوجي و التقني في عدة مجالات.
بإختصار شديد، أنت لا تستطيع أن تطلب من شخص فاقد لأية قيمة معنوية أو وجودية أن ينتج لك شيئا ذا قيمة، ينتفع به مجتمعه أو وطنه سواء تعلق الأمر بفكرة أو إختراع أو نظرية علمية، هذا الشخص الذي يعتقد بفكرة غيبية إنهزامية تدفعه دفعا نحو إتباع أسلوب حياة سلبي، لن يقوم فيه بأي عمل إلا إذا كان يصب في خانة رؤيته الضيقة جدا للعالم، و حتى إن تعلق الأمر بفعل الخير أو بتصرف نبيل أو أخلاقي، فهو سيبحث أولا عن مرجعيته الدينية في ذلك الفعل و مدى مطابقته لها، ثم سوف يمر بعد ذلك إلى المرحلة التي يتأكد فيها ما إذا ما كان هنالك وعد بمكافأة ما في ذلك العالم الغيبي الذي يحلم به لقاء هذا الفعل، و حينها فقط قد يقتنع بضرورة القيام به، شخص كهذا لا تحركه القيم الإنسانية النبيلة و لا الأخلاق و لا المبادئ، بل يتحرك مدفوعا بنزعة أنانية عميقة سعيا وراء مصلحته الشخصية كما يتخيلها هو إنطلاقا من منظور ضيق و محصور داخل دائرة الإعتقاد الغيبي، و لعل هذا هو ما يجعلنا نقرأ لبعض الشيوخ كلاما قميئا عن العلماء و الأطباء و الباحثين الغربيين الذي توصلوا لإختبارات و إكتشافات مبهرة إنتفعت بها البشرية، فإن سألت أحد جهابذة الدين عن هؤلاء، سوف يجيبك بدون تردد أنهم مهما اخترعوا و خدموا البشرية، فقد “حبطت” أعمالهم في الدنيا و الآخرة ما داموا لم يدخلوا في “الدين الحق”، فتخيلوا معي مثلا كيف يمكن أن يكون إبن تيمية مفتي الدماء و القتل أرقى و أفضل مكانة من إدوارد جينير مكتشف لقاح الجذري أو المخترع الكبير توماس إديسون، فكيف يستقيم هذا المنطق العبث. ؟؟!!!
و في نفس السياق فهذا الشخص الأناني قد يرتكب من الفظاعات ما يشيب لهوله الولدان، قد يفجر الأسواق و المراكز التجارية و مجالس العزاء و الأعراس والمساجد و الكنائس و المعابد، قد يطلق النار على المارة في شارع مزدحم، قد يتخطف طائرات مدنية و يصدمها بالمباني، قد يختطف أناسا أبرياء و يقوم بذبح و فصل رؤوسهم عن أجسادهم أمام الكاميرات كل ذلك و هو و هو يكبر و يهلل دون أن يرف له جفن، و بقدر الصدمة العميقة التي تخلفها مثل هاته المشاهد في عقول الناس البسطاء بقدر ما يكون الدافع الرئيسي لدى مرتكب هاته الأفعال بديهيا و مفهوما من وجهة نظره على الأقل، فهو يطبق أوامر و مقتضيات دينه و عقيدته التي تأمره بإرهاب أعداء الله و محاربة الكفار و المرتدين و القعود و الترصد لهم و ضرب رقابهم و سفك دمائهم و الإثخان فيهم و التشريد بهم من خلفهم، و ما داموا كفارا و ملاحدة فدماءهم و أعراضهم و أموالهم و ذريتهم حلال، و فوق كل هذا العبث دينه يعده بمكافآت عظيمة في نفس العالم الغيبي الذي يحلم به و يطمح إليه هربا من واقع مغلف بكل أسباب الفشل و التخلف و اليأس، عالم يعلم جيدا أنه لا سبيل له لأن يحقق فيه أي شيء، و لأنه واثق بأن ذلك العالم موجود حقا فهو يسعى للوصول إليه بجميع الوسائل و الطرق، حتى أكثرها بشاعة و فظاعة.
النهوض بمجتمع معين يتطلب أولا و قبل أي شيء، الوصول إلى مستويات متقدمة جدا من الواقعية و العقلانية، تسمح للفرد بقراءة الواقع كما هو بكل تفاصيله و معطياته، حتى أكثرها قسوة دون مداهنة أو مواربة، و دون استدعاء لتلك المفاهيم الغيبية التي تسمح بتبرير الأوضاع المزرية على أنها مشيئة إلهية أو غضب من الله على المجتمع الكافر الذي يرتكب المعاصي أو لا يحكم بما أنزل عليه من شرائع و أحكام، و كأن المجتمعات المتطورة التي أعادت الإيمان و الدين و العبادات إلى مكانها الحقيقي داخل الكنائس و المعابد، هي من تعيش اليوم في ضنك و شظف العيش، يذبح أبناءها بعضهم البعض و يقتل أطفالها و نساء بالتفجيرات الإنتحارية العشوائية إبتغاء مرضاة الله، عوض ذلك يجب أن يصل المجتمع لمستويات متقدمة من الوعي و الفهم الشامل لحقيقة و تفاصيل واقعه و أن يواجه أزماته و مشاكله بشجاعة و بإقتناع تام بضرورة السعي وراء إيجاد حلول لها هنا في هذا العالم و بإستخدام قدراته و إمكانياته هو، لا بإستحضار الآلهة لكي تواسيه بنكباته و تعده بحياة أفضل في العالم الأخروي.
مهدي بوعبيد