في الوقت الذي كانت تدق الساعة فيه تمام الثانية عشر لتفصل ليل عن آخر ، كنا قد افترقنا بعد الاتفاق علي توزيع مناطق العمل ، أخترت نفق 45 لقربه من منزلي ، وضعت عبوات الأسبراي داخل الحقيبة .. كنت احتاج مزيد من الجرأة و عدم التردد … لذا لم أتردد … عرجت علي جورج بائع الروحانيات و ابتعت زجاجة عمر الخيام ، لففت سيجارة ، و كما انتويت ، بدأت في أنهاء نصف الزجاجة مع نصف الجوان … نظرت لمرآة الدولاب بجانبي .. ، فيما يبدو طالت النظرة و تحدثت لنفسي كالمجانين …. صرت ألتمس العذر عفواً لمن يدعونهم مجانين لأنهم يبتسمون أو يتحدثون لأنفسهم في الطريق غير شاعرين او مبالين بنظرات الأخرين … أحياناً تتسلل الأبتسامة لوجهي عفوياً مثلما حدث اليوم و انا في طريقي و أتذكر قولة أحدهم في نشوة مزاجية فيما اخذنا الحديث عن آباءنا السُذج الطيبيبن … ” ياعمي , أنه : مُعجم الأغبيـــاء في تربية الآبنــــاء ” …. صباحات غريبة تناوش الأنسان أحياناً .. أصحو من نومي تائهاً و أرتخي علي معقدي المفضل و قدماي معقودتان للأعلي و الأصابع تداعبها رياح شتاء قادمة عبر الشباك الموارب ، تقع عيني الناعسة للمرة المليون علي مكتبة أبي التي لم أراه مرة ينسُل من رفوفها احدي الكتب ليقرأه ، أو حتي يتصفحه ، كانت كُتب للزينة مثلما كان نظارة القرآة للزينة و كان كل شيء للزينة … ستة مجلدات زرقاء، أنزلقت مرة أو مرتين في خِبال لغتهم الميتة و لم أكررها .. ” احياء علوم الدين ” ، الغزالي … أراني لحظتها و انا أهرب من الغبار التراثي الذي ينخُر في العظم و اتخيلني مؤلفاً لكتاب ضخم آخر لم يوجد بعد بعنوان : ” أحياء علوم الأنسان ” .. أو حتي ” أحياء علوم الحيوان ” … و ماله الحيوان ؟ … حيوان مين يا عم ؟ ، يا سيدنا دانا بالنهار كنت راكب مشروع ، واحد جنبي عنده صرع الظاهر كده والحالة جتله ، سواق المشروع طلع جنتل ووقف علي جنب و أتصلنا بالأسعاف .. تخيل بأة أن الراجل فاق و النوبة راحت و الاسعاف لسه مجتش … طلع السواق بالعربية و شوفت بعد ما لا يزيد عن 100 متر عربية أسعاف راكنة علي جنب و السواق بتاعها راسه لورا و نايم .. هل كان السائق هو حسني مبارك و لا واحد شبهه ؟ .. . مش وقته خالص هلاوسك دي
قطعت هلاوسي مع الذات و خبئت ( الخيّام ) تحت السرير ، و نصف الجوان في علبة السجائر بين السيجارات العادية و كنت قد تخيلت وقتها انه ربما تنتقل العدوي لباقي السجائر ليصيروا جوانات يملئهم الزيت و خيالات الطيور ….. حملت الحقيبة و لا أدري لماذا نظرت مرة أخري للمرآة ….. دقائق و كنت في بداية النفق، أخرجت عبوة من عبوات الاسبراي … بدأت في الشخبطة علي حيطان النفق …. يســــــقط حســــــني مبارك …. يســــقط حسني مبارك …. لا للتوريـــــث ….. توحي لي الدماغ الحالمة بعبارات أشد وطأة و اقوم تأثيراً من تلك العبارات المستهلكة …. لا للتعربـــــص …. لا للتوريث … عليا النعمة لو مسك هو أو ابنه لأجري في الشارع بلبوص و أدبح في الناس … واسعة دي أوي … بلاشها …. أذن فليكن …. يســـــقط حسني مبارك … لا للتعريـــص و التوريث .. لن نعرص بعد اليوم ….يبدو أنني أخذت وقتاً أطول من المحدد لي لدرجة أني كنسلت ثمان مرات علي مكالمات باقي الرفقة اللذين أنهوا مهمتهم علي جدران المعمورة و المنتزة و ع البحر و في مناطق أخري … نظرة أخيرة علي جدران النفق لأجده قد تحول لبوب آرت في كراهية البيضة الكبيرة …
أيوه يا بني ، مبتردش ليه ؟ … أشطة ! … حد من العيال أتمسك ؟ … طب تمام … عالقهوة في محطة الرمل .. تمام تمام .. سلام سلام
رجعت للبيت و أخرجت (الخيام) من مخبأه و النصف جوان … و جوان آخر … سيبدأون بعد قليل في الأتصال .. لم أفكر كثيراً , أغلقت التليفون … دخلت سريعاً في مخاوف و كوابيس يقظة عن إحتمالات الأمساك بي و أني لن أري أهلي مرة أخري ، بسهولة أزحت مخاوفي و أنا أغوص في خيال لواقع مبالغ فيه .. واقع تفضيل الخطر و المجازفة … أقدر الحرية في لحظة التدمير .. نهوض و تجريب للعنف البدائي .. شعور بلذة اختبار الذات في مواجهة العدم .. مغازلة الفناء .. الفوضي هُنا و الآن ضد السائد و المألوف و القانون و النظام الحاكم ..يقوي المرء ذاته و يجرب حريته … كما يلعب المرء بالنار .. و كأن التطور التاريخي هو حركة في العدم ، المرغوب فيه.. من لاشيء للاشيء .. من غير غاية لغير غاية فيما وراء القيم و الأخلاق … و إلا فإن كل ما سبق لم يحدث و لم يُنشأه حتي الخيال ….
تعليق واحد على و لم يُنشأه حتي الخيال …
رائعة!