(يوم مثالي لمشاهدة الكنجارو) الصادر مؤخراً عن سلسلة كتاب (العربي) يمثل احتفالاً هاماً بالقصة القصيرة إذ يحتوي الكتاب علي ثلاثين نصاً لأبرز كتّاب القصة القصيرة في العالم
من القصص القصيرة المميزة في الكتاب قصة (ديمتريو) لـ (خوليو رامون ريبيرو)، ترجمة (نادية جمال الدين) حيث يتحدث (ماريوس كارلن) عن صديقه الروائي (ديمتريو فان فاجن) الذي ترك يوميات تُنسب للسنوات الثماني التالية لموته .. قال (ماريوس) أن (ديمتريو) توفي بطريقة غامضة في حانة، وأنه تتبع التواريخ المستقبلية المُدونة بدقة في المذكرات للتأكد من صحة أحداثها وفقاُ لـ (ديمتريو) فاكتشف أنه لم يخطيء أبداً
(عند ذلك ازدادت حيرتي، كما أن النتائج التي أمكنني استخلاصها كانت قليلة. فواضح أن ديميتريو قد توفي في
2 يناير
عام 1945
ولكن المؤكد أيضا أنه في عام
1948
حضر مراسم دفن ارنستو بانكلوس وأنه في عام
1949
كان بالمتحف الوطني بأوسلو، وفي عام
1951
تعرف علي ماريون في فريمان ورزق منها بطفل. لقد تم التحقق من كل ذلك بالفعل)
ثم نقرأ تفسير (ماريوس كارلن) للنتائج التي أسفرت عنها تحرياته:
(إن دوامنا الداخلي لا يمكن تعريفه ولا قياسه ولا تأجيله. فمن السهل أن نعيش أياما في دقائق والعكس، دقائق في أسابيع. فكما هو معلوم أن حالات ظواهر التنويم المغناطيسي كثيرة أو حالات شدة الإثارة أو النشوة التي يسببها الحب أو الخوف أو الموسيقي أو الحمي أو المخدر أو التدين الشديد، ولكن ما لا أستطيع إدراكه هو كيف ينتقل هذا الدوام الداخلي إلي حيز الفعل، وكيف يتوافق زمن كل فرد منا مع الزمن الشمسي؟ إن التفكير في أكثر من شيء خلال الثانية الواحدة أمر معتاد ولكن الأكثر تعقيدا هو القيام بذلك في المدة نفسها
والمؤكد أن ديمتريو فان فاجن قد قام بأشياء كثيرة خلال زمنه الشخصي، وهي أشياء لم تتم في الزمن الحقيقي إلا فيما بعد. كما أن هناك أشياء كثيرة فعلها وما زالت لم تتحقق بعد. فنجده مثلا يصف في العام
1954
رحلة إلي الهيمالايا يفقد خلالها أذنه اليسري نتيجة التجمد. أو، دون أن نبتعد كثيرا، يشير إلي اليوم وهو العاشر من نوفمبر من عام
1953
إلي قيامه بزيارة لبيتي. وهو ما لم يحدث بالطبع لا في زمني ولا في الزمن الشمسي. ولكن اليوم لم ينته بعد وكل شيء محتمل الحدوث. فهو لم يحدد في يومياته الساعة، كما أنها لم تشر بعد إلي الثانية عشرة ليلا. أو لعله قد أجل الزيارة دون تدوين هذا في يومياته
مازالت هناك دقيقة باقية. أقر بالشعور بنفاد صبري بعض الشيء حتي أن ربع الساعة الشمسي الذي استغرقته كتابة هذه الصفحات قد بدا لي طويلا بلا حدود. ولكن لا يمكنني بالطبع أن أخطأ، فأحد ما يصعد الدرج. خطوات تقترب. ساعتي تشير إلي الثانية عشرة ليلا. طرق علي الباب. إنه ديميتريو، هنا)
إن ما يحكم القصة في اعتقادي ليست علاقة الروائي الميت بيومياته مثلما يبدو للوهلة الأولي بل ما تمثله تلك اليوميات لصديق الراوي الذي يحاول تفسيرها .. كأن (ماريوس كارلن) يستخدم المذكرات المستقبلية التي تركها صديقه (ديمتريو فان فاجن) للإشارة إلي أرق ذاتي بتغييب الموت .. إن اليوميات تضمن للراوي البقاء حياً علي الأقل حتي زيارة الروائي الميت إلي بيته، وبذلك فإن القصة يتركز همها الأساسي علي هاجس الخلود عند الصديق، أو سعادة الحصول علي تأكيد ـ حتي لو كان قائماً علي أدلة غامضة ـ لاستمرار وجوده في العالم إلي وقت معلوم .. في ضوء ما سبق سيتحوّل اللقاء في نهاية القصة بين (ماريوس كارلن) و(ديمتريو فان فاجن) إلي معجزة خلاص حقيقية تضع حداً للموت، فهي لا تثبت فقط وضعيتك ككائن علي قيد الحياة في تلك اللحظة بل يجعل من إمكانية مواصلة الحياة ـ فعلياً ـ بعد وفاتك شيئاً عادياً يمكن تحقيقه .. لكن علي جانب آخر فإن محاولة صديق الروائي تفسير صحة المذكرات المستقبلية، وإرجاعها إلي سهولة أن نعيش أياماً في دقائق، ودقائق في أسابيع، وأن (ديمتريو) قد قام بأشياء كثيرة في الزمن الشخصي لم تتم في الزمن الحقيقي إلا فيما بعد بكيفية مجهولة؛ في محاولة التفسير هذه إلهام يتجاوز الروائي الميت وصديقه، واليوميات .. إنها تحريض علي التمعّن في الوجهين النمطيين للحياة والموت بصورة عكسية .. ما يبدو أنه كان ـ ظاهرياً ـ حياة هو في الواقع لم يكن سوي موت، وأن (الخيال) هو الجزء الحي الوحيد في هذا الموت .. الجزء الخالد، الذي ـ ربما كنوع من التحرر ـ يتحوّل إلي واقع أبدي حين ينقلب الموت إلي حياة غائبة عن العالم .. لقاء (ديمتريو) هو إذن وصول أمنية (ماريوس) في التعرّف علي الحياة الحقيقية إلي حيز التنفيذ
في السطور الأولي من قصة (جو ريفي) لـ (خوسيه ماريا ميرينو)، ترجمة (صالح علماني) نقرأ:
(سلموه الشقة في أواخر السنة, وبدأ علي الفور بتصميم ديكور لها. كان يرغب في أن يضفي علي المسكن هوية تميزه عن مئات الشقق المحيطة بشقته, والمتراكمة أيضاً في عمارات هائلة مائلة إلي الحمرة. وكان يرغب في الوقت نفسه في أن يُشيع,,ولو بالتصنع ,حضوراً ريفياً, جبلياً; كذكري من بلدته الأصلية، النائية والمنسية)
لكننا في نهايتها نقرأ:
(عاد إلي العمل في اليوم التالي ،ولكنه حين رجع إلي البيت كان الذئب قد التهم بقية الأرانب. عندئذ قرر القيام بمطاردة صيد في كل أركان الشقة، كنه لم يتمكن من العثور علي الحيوان الضاري
واستعد مرة أخري للحراسة فوق المرج ،فبقي ساهراً تلك الليلة، والبندقية علي ساقيه ،وطوال النهار التالي ، دون أن يظهر الذئب. وفي الليلة الثانية أحس بنعاس شديد, ولكنه تمكن من مواصلة الحراسة. ولم يظهر الذئب كذلك. وفي الليلة الثالثة غلبه النعاس
بعد يومين من ذلك اتصلوا عدة مرات بالهاتف, ولكنه لم يرد. وكان لا بد من مرور أسبوع آخر قبل أن يجدوه: كان ملقي في وسط الصالة, ملطخاً بدم جاف, وحنجرته ممزقة. وبسبب انعدام السقاية, كان العشب قد ذبل واصفَّر تماماً)
إن ما يبدو غريباً ورائعاً في القصة بالنسبة لي لا يقتصر علي الحكمة المحتملة التي يمكن تلخيصها في أن أي جمال هو خطر أيضاً لدرجة القتل .. لكن القصة تقول ما هو أكثر من ذلك؛ فهي تأخذك إلي الإرباك الناجم عن تحوّل التصنّع إلي أصل .. كأن الحقيقة تحتاج لمجرد محاولات جادة في رسم صورة لها حتي تحضر بكامل واقعيتها .. لكن هل المحاولات الجادة لرسم صورة الحقيقة هي ما يدفعها للحضور الواقعي أم تصديق قدرة هذه المحاولات .. كلمة التصديق تبدو لي جوهرية في هذه القصة، ولعلها لا تحتاج لدليل أقوي من عدم تخلي صاحب الديكور الريفي عن الهوية التي أضفاها علي مسكنه فور تأكده من وجود الذئب، لكنه قرر الدفاع عنه بالضبط مثلما يُدافع الريفي التقليدي عن ممتلكاته .. التصديق يمحو الصورة لصالح الأصل، وقد يمنعنا من الشك في أن كل ما حدث لم يخرج عن كونه تهيؤات مرعبة حفّزها الاستغراق في الحنين، أو المبالغة في تخليد ماضٍ منسي ومهمل .. الذئب حقيقي جداً حتي لو كان الأمر كله مجرد تهيؤات
في قصة (المفقود) لـ (أرنولف أوفرلاند)، ترجمة (سميرة أحمد السليمان) لا يعني رجوعك المفاجيء من الحرب بعد الاعتقاد بموتك سوي أن الحياة ستصبح بالنسبة لأم وابنة أكثر عذاباً .. من عاد من الحرب لم يرجع إلي زوجته وطفلته التي كبرت بل إلي بطالة وغلاء وعالم يدبر أبناؤه أمورهم بشق الأنفس .. كأن الفقدان في الحرب هو نوع من الرحمة للتخفيف من آلام حرب أخري .. إن الحياة حينئذ لو جاز لنا أن نضع تعريفاُ لها فلن نجد أكثر أمانة من الكلمات الأخيرة في هذه القصة:
(هل سوف أنام هنا؟ سأل هو. ـ نعم. في الداخل ننام أنا و”إتي”)
* * *
أخبار الأدب
27/09/2014