بدأ (ياسرثابت) روايته (أيامنا المنسية) الصادرة مؤخراً عن (منشورات ضفاف) بمغامرة سرية يخوضها الراوي، وصديقه للوصول إلى سطح العمارة التي يسكنها .. تسلل عبر نافذة مهشمة، وتشبث بقضبان حديدية صدئة لتجاوز هوّة المنوَر، والوصول إلى أعلى المبنى للتلصص على نوافذ، وشرفات الآخرين .. هذا المشهد الافتتاحي يعطي فكرة عن طبيعة اليوميات المتفرقة التي سيدونها الشاب الصغير، والتي تبدأ من 19 ديسمبر 2008، وتنتهي في 7 سبتمبر 2013 .. طبيعة تنتصر ربما إلى هاجس غامض يقرر أن كافة الحكايات التي يعيشها الراوي، ومهما كان دوره، أو تأثيره في تكوين تفاصيلها، وأحداثها؛ فإن توثيقها في النهاية هو نتاج تلصص
(أتأمل أمي وهي تعد لي حساء الفطر وترص على جانب الطبق شريحة الخبز المدهون بزيت الزيتون والثوم. تبتسم وهي تضع طعام الغذاء أمامي. أنضم في المساء إلى صفحة “كلنا خالد سعيد”، تضامناً مع شهيد الطواريء، الشاب السكندري الذي تم تعذيبه أمام أعين الشهود في سيدي جابر. وجدت نفسي أحمل رقم عضوية يتجاوز 185 ألفاً، وهذا أمر مبشر للغاية)
لكن التلصص ليس أمراً سهلاً، بل ـ وهو ما يؤكده المشهد الافتتاحي، ويمتد إلى جميع صفحات الرواية ـ هو فعل محكوم بالتهديد، والمشقة .. قد يزيد ثقل الشعور بذلك الخطر مع تصاعد الحاجة إلى مراقبة الأشياء التي تبدو واضحة من ثقب مجهول .. الاختباء وسط ظواهر معلنة، تدفعك فجاجتها المتراكمة إلى الانزواء عسى أن تعثر وسط تلك التقلبات المتمازجة بين الشخصي، والعام على نقطة تمكّنك من الرؤية الصحيحة، ومن ثم تعطيك الفهم .. شوارع القاهرة .. موت الأصدقاء .. العلاقة الملتبسة مع الأب، والأم، والحبيبة، وصديقة الأم المغوية .. هنا يبدو التلصص كأنه انفراد ذاتي بالأشباح، عليك دفع ثمنه .. أن تنتزع جسدك من التعاقب اليومي الجارف لتشكيل حكاية خاصة من ملامح متناثرة، وغائمة .. الفعل الذي يشبه التشبث بقضبان حديدية صدئة لتجاوز هوّة منوَر
(تمر طائرة حربية في تلك اللحظة، بصوتها المدوي الذي يصم الآذان، فتشرد أمي قليلاً، وهي تقول بصوت كأنه آت من أعماقها: للطائرات الحربية وهي تجوب الأجواء وقع يتأرجح بين الشعور بالحماية والخوف في آن… لم نألفها قريبة هكذا منذ سنوات .. ربما منذ 1973.. أهديء من روعها، فتستطرد قائلة: أمقت العنف الذي يقرض كجرذان الأقبية أعمارنا، لكنني أخاف أيضاً الطائرات التي توزّع علينا حصتنا اليومية من القلق والتعاسة)
هل تريد (أيامنا المنسية) تثبيت أفكارنا عند حد المعاناة الكامنة في التلصص؟! .. أتصور أن ثمة قراءة ضرورية يقترحها (ياسر ثابت)، تتعلق بالتماهي مع المتعة المحتملة أيضاً في هذه الممارسة .. إذا كان الأمر محكوماً بالتهديد، والمشقة فلابد أنه أيضاً مقترن بلذة التمنّع اللحظي عن الانخراط في السياق .. الخروج عن المشيئة الجماعية لصالح الأرق الفردي، أو لنقل أن التلصص هو فتح ثغرة في جحيم التكدس للمرور إلى الخفاء .. امتلاك سلطة الخلق، وترتيب العالم ـ حتى مع أقصى مستويات الخضوع لانضباط الواقع ـ تحت حماية التواري، فضلاً عن السحر الخبيث الناجم عن الإحلال، والحضور داخل كل وجه تصادف انتماءه للحصيلة البصرية .. الثورة .. الألتراس .. ذكريات العائلة .. إذن التوثيق هو أسر المراوغة في كف اليد التي تتسع جروحها مع مرور الوقت .. هذا ما يجعلنا ربما نتوقف طويلاً عند عبارة (ابراهيم نصر الله) في (أعراس آمنة) التي استخدمها الكاتب كعتبة للسطور الخاصة بـ 28 يناير 2011: (هل تعرف مصير الحكايات التي لا نكتبها؟ .. إنها تصبح مِلك أعدائنا
* * *
أخبار الأدب
14/9/2014