مرة أخرى تراق الدماء ويقتل العشرات في بشاعة في في وضح النهار، في وسط أوروبا، في عاصمة النور ..

تتسابق أقلام الصحفيين والخبراء على التعليق، تتعالى الهتافات والإدانات، تمتليء شبكات التواصل الاجتماعي بالصور والتصريحات الداعمة لشارلي إبدو والشاجبة للإرهاب، ينفعل المسلمون في أوروبا ويقلقهم ما حدث، صحيح أنهم اعتادوا أن يكونوا تحت النظر، مثارا للشكوك ومدعاة لجدل سياسي وإعلامي لا ينتهي، ولكن مشاعر العداء هذه الأيام على أشدها (تظاهرات حركة بجيدا Pegida في ألمانيا مثلاً وصعود قوى أقصى اليمين المعادية للهجرة في بلاد أوروبية عدة )، فكيف بها بعد هجوم بهذا العنف وهذه الدرجة من التسييس والحماس الإعلامي ؟

كالعادة نسمع عبارات مثل: لا علاقة للإسلام بما حدث، الإسلام يدعم حرية الرأي والتعبير، الإسلام يرفض الإرهاب، إلى ما لا نهاية له من التصريحات والتبريرات التي تعاد وتزاد في كل مرة يحدث فيها عدوان مشابه، فلا توقف المعتدون عن قتل الأبرياء صارخين الله أكبر  ولا الشكوك تبدت حول الأسلام وعلاقته بالعنف ومعاداته للأخر.

قبل أن نهتف  Je suis Charlie أو نقول مع القائلين أن الإسلام لا يعرف العنف هناك عدة أمور يجب أن نفهمها:

أولاً: رواسب العقل الإستعماري الغربي مازالت فاعلة ليس فقط كخلفية عقائدية لتيارات اليمين المتصاعدة، بل تعبر عن نفسها بين الحين والأخر في تصريحات ساسة ومفكرين ينتمون لتيارات الوسط ويمين الوسط كذلك. والإسلام يلعب اليوم في الغرب دور ما أسماه ادوارد سعيد بذات تحتية بديلة، يعاد تركيبها واستيعابها لتقف في موقع التضاد أمام الحداثة الغربية العلمانية وتؤكد بتخلفها ولاعقلانيتها رفعة الأخرى وتفوقها. علاقة التباين هذه أصبح لها أبعاداً أعمق منذ نهاية الحرب الباردة ثم تفجيرات سبتمبر ٢٠١١

 وردود الأفعال الأخيرة تشير إلى فاعلية هذه العلاقة في تحريك الجماهير وإثارة العداء، فثمة خطاب عدائي  تطلقه منابر إعلامية وأكاديمية مختلفة، يخفي تحت قناع تحرري ما يحويه من عصبية وضيق أفق وضحالة معرفة. وكأن الإسلام وحده هو دين الأرهاب، وكأن للغرب أياد نظيفة لم تعرف الدماء أو عرفته ثم نبذته إلا من صفقات السلاح البليونية لدول ” مارقة” وأنظمة دكتاتورية ترتركب كل ما هو مناهض لحقوق الإنسان وحرية التعبير.

ثانيا: لاشك أن مقتل صحفي ورسامي شارلي ابدو جريمة وأن إدانتها والغضب لحدوثها والخوف من تكرارها واجب لا جدال عليه بين كل من يجل الإنسان ويحترم الإنسانية، ولكنه ليس من الإنسانية أن يكال بمكيالين، وأن يلقى هذا الحادث كل هذا الخضم من الإهتمام الإعلامي ثم لا يرعى إنتباه أحد أن يسقط  تزامناً مع تلك الألآف في نيجيريا ضحايا لإرهاب بوكو حرام ولا يلقى ذلك من التغطية الإعلامية سوى أقل القليل، بل سرعان ما اختفت أخبار المذبحة تماماً من نشرات الأخبار وتقارير المراسلين. لماذا ينتفض العالم في غضب عارم أمام حادثة باريس ولا تثير حمامات الدم السوري في  نفس أحد شيء سوى تحسرات عاجزة لا تسمن ولا تغني سرعان ما تصير صمت قاتل يغرق في برود أعمى ؟ أتهتز الأرض حين يُصفع القوي ولا تحرك ساكناً حين يُسحق ألوف الضعفاء ؟

ثالثا: يجب أن نعي أليات توظيف جريمة باريس سياسياً سواء في فرنسا أو في خارجها وأساليب خلط الأوراق إما عن قصد أو غير قصد. باريس تعيش غليان سياسي منذ شهور عدة في أجواء أزمة اقتصادية تتصاعد حدتها، وصراع بين اليمين واليسار، بين رئيس منتخب (فرنسوا أولاند)، تنخفض شعبيته بشكل غير مسبوق في تاريخ فرنسا ورئيس سابق( ساركوزى) لا يعترف بالهزيمة، يرى في نفسه رجل الساعة، المنقذ العائد الذي يستحقه مكانه في الإليزيه رغم كل ما يلاحقه من قضايا الفساد والفضائح. رأينا كيف جعل هذا الحادث الفرنسيين يتعاطفون مع أولاند ووزير داخليته لتزداد شعبيتهم بين ليلة وضحاها، رأينا ساركوزي يتدافع ليكون في صدارة جموع المتظاهرين مثله مثل غيره من زعماء العالم أو مثل غريمة أولاند ليبقى دائماً في الصورة ليس فقط في أوقات عسر الرئيس الكثيرة بل وكذلك في لحظات علو نجمة القليلة. أما اليمين الأوروبي فقد أخذ يصصاد في الماء العكر، يدعو للتظاهارات، يطلق التصريحات العدائية الفجة،  يخرج ما في جعبته من كراهية وعداء للمسلمين والأجانب، يلهث وراء أصوات ناخبين جدد من الغاضبين والناقمين على المؤسسات السياسية السائدة وخطاب الأحزاب المعتدلة،  يدعي في شماته صفاحة الرأي وبعد النظر ويحذر من أسلمة أوروبا أي نهاية الحضارة والعودة للبربرية ويدعو للأستشهاد في سبيل الدفاع عن حرية التعبير. (الطريف أن ماري لو بن، زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف Front National كانت من أشد المعاديين لشارلي إبدو والداعيين لمنعها لسخرية الصحيفة منها ). رأينا نتنياهو في خسة يلعب لعبته المفضلة ويروج لفكرة أن الأرهاب الذي على فرنسا اليوم محاربته هو نفسه الذي تحاربه إسرائيل منذ سنوات وسنوات، فلا سبيل لفرنسا غير أن تقف في صف إسرائيل التي هي حصن الغرب وحضارته في الشرق الأوسط، ذلك في الوقت الذي كاد البرلمان الفرنسي أن يصوت على مشروع قرار بالإعتراف بالدولة الفلسطينية، ثم رأينا أبو مازن يتبعه، كأن باريس قد صارت في ذلك اليوم ساحة للتنافس باسم حرية الرأي بين غرماء سياسين، حتى بين هؤلاء الذين لطالما انتهكوا حرمات الرأي وكرامة الإنسان.

رابعا: علينا الاعتراف أن لدى أغلبية المسلمين مشكلة حقيقية في التعامل مع المقدسات والرموز الدينية، فقد تعدينا حدود المعقول وصرنا أشبه بالمرضى، نهتاج لكل ما يمس معتقداتنا بشكل هيستري لا منطق من وارءه. لا أفهم كيف ينزعج مؤمن قوي الإيمان وواثق المعتقد من كاريكتور ساخر مهما كانت وقاحته ؟ ما الضرر الذي قد يمسس معتقدٍ من صورة، مادام يؤمن صاحبة بأن الحق معه والله نصيرة وأن الساخرين قد ضلوا أو هم يجهلون ؟ لماذا نريد أن نجبر العالم على احترام ما لا يخصه ؟ لماذا نظن أن الله ودينه في حاجة لكل هذا الغضب الجامح، للحرائق، للدماء، للصراخ “إلا نبينا” مادام الله هو القوي والدين هو الحق ؟ أليس لمحمد رب يحمية ؟ ثم ما بالنا لو رددنا الإساءة باتسامة أو حتى بالصمت والتجاهل، هل كان المسيء ساعتها قد عاود إسائته ؟ هل كانت شارلي إبدو ستصير على كل لسان كما هي اليوم تبيع ٧ ملايين نسخة بدلاً من ٥٠ ألفاً ؟ هل كان هؤلاء الفنانون متواضعي المستوى سيصيرون كما هم اليوم شهداءً سيخلدهم ضمير العالم ؟ ألا توجد دروس مستفادة من قصة سلمان رشدي ورسوم الدانمرك وغيرها وغيرها من “الإساءات” التي حولها المسلمون بجهل وسفه إلى بطولات مجيدة ؟

خامسا: ليس صحيحا أن الإسلام لا علاقة له بما يحدث. فالإسلام في النهاية هو المسلمون في مجموعهم طالما أن النصوص لا تتكلم عن نفسها بنفسها ولا تنطقها غير ألسنة البشر وتدلل عليها غير أفعالهم. نستطيع القول أن ثمة تفسيرات راديكيلة قد تغاضت عن السياقات التاريخية ورأت في بعض النصوص الإسلامية تحريضاً علي جريمة كهذه. وأن انتعاش هذا النمط من التفسيرات هو نتاج أسباب سياسية واجتماعية، بالإضافة إلى أزمة ثقافية يعانيها الإسلام المعاصر الضائع بين أطراف ثنائية الأصالة والحداثة المفتعلة. أما القول بأن هذه التفسيرات ليست من الإسلام في شيء فهو كدفن الرأس في الرمال، هروب عقلي من حقائق غير لائقة لن يحل إشكالاً ولن يغير فكرة باطلة. وليس أفضل الحلول أن تبتر عضوك المريض قبل أن تشخص أسباب مرضه ثم تدعي أنه لا يمت لك بصلة. على العقل الإسلامي أن يواجهة نفسه بشجاعة، أن يطرح على نفسه الأسئلة بلا خوف دون السقوط في دوامة التبريرات والإعتذارات والإكتفاء بمغالطة النفس. أن يحدد موقعة من التاريخ والعالم إنطلاقاً من ذاته هو لا من حيث علاقتة بالغرب المتفوق إما بالثورة عليه، أو بتبرير عجزه أمامه.

 أخيراً من الخطأ ان نقف في تفسير جرائم كهذه عند حدود الأيدولوجيا ولا نرعى إنتباهاً لأساستها الإقتصادية والإجتماعية. سعيد وشريف كواشي لا يحبون الموت، هم يكرهون الحياة. قبل أن نسأل أنفسنا لماذا أرادوا الموت علينا أن نتساءل لماذا كرهوا الحياة. حينها لن نجد الإجابة في نصوص الإسلام وأدبيات الأصولية، سنجدها في أوضاع اجتماعية بائسة، في العدالة الغائبة في سطوة سياسات مشوبة بالعنصرية. في ذلك الذي يصفه المؤرخ Andrew Hussey  بالفلسفة المجتمعية الفرنسية التي تطرفت في تقديسها للمساوة إلى الحد الذي صار معه الإختلاف غير مقبول، في الBanlieue أو الأحياء التي يعيش فيها الألوف من المهاجرين وأبناء المهاجرين على أطراف المدن الفرنسية، سجون كبيرة شوراعها مسرحاً للمخدرات والجريمة، يطلق ساكنيها على أنفسهم مصطلح  racaille أو الحثالة، كأنهم قد سلموا بعجزهم وضعفهم وارتضوا البقاء على الهامش منبوذين، فكيف لا يكره هؤلاء الحياة ؟

 لا أجد أصدق من ما قاله عالم الإجتماع الفرنسي ميشل فيفوركا في هذا الصدد لأختم به المقال: ” هؤلاء الشباب يسمعون كل يوم أن فرنسا جمهورية صالحة، مواطنيها أحراراً يتمتعون بحقوق متساوية، ولكن هذاالذي يسمعونه ليس إلا فكرة مجردة في المطلق لا علاقة لها بالواقع الذي يعيشونه. في كل مدرسة يقرأون عبارة “حرية، أخوة، مساواة”. تلك العبارة التي صارت فجواء، حتى الضحك لا تثيره لدى هؤلاء الفتية. ربما كانوا أحرارا، أما متساوون فلا.”