ربما كان تفادي المقارنة المجردة بين الأماكن يستدعي إرادة جالبة للمشقة .. أقصد بالطبع اقتفاء أثر التطابق بين الميادين، والشوارع، والمقاهي، والمطاعم، والبارات، والفنادق، والمكتبات التي تحركت داخلها خطوات (ارنست همنجواي) في باريس العشرينيات، و(صموئيل شمعون) في باريس الثمانينيات .. لكنني في الحقيقة ـ على الأقل داخل حدود لحظة الكتابة هذه ـ غير مصاب بذلك الإغراء، بل أراه أكثر جدارة بشخص قادر على معاينة الجغرافيا الباريسية على الطبيعة، كما أنني لا استبعد التفكير الذي يعطي احتمالاً لاختباء التعمية عن القصد الأهم داخل هاجس المقارنة الجغرافية

(عندما عدنا إلى باريس، كان الجو صحواً وبارداُ ورائقاً. فالمدينة تكيفت مع فصل الشتاء، وتوفر خشب جيد للبيع في محل الفحم والأخشاب الكائن عبر شارعنا، وثمة مجمرات خارج العديد من المقاهي الجيدة كيما يتمتع الروّاد بالدفء في شرفاتها، وكانت شقتنا دافئة وبهيجة)

كانت باريس بالنسبة لـ (همنجواي) احتفالاً بالطبيعة، وهذا لم يكن ليتحقق لولا ما كانت عليه حياته وقتئذ، والتي دفعته لجعل أكثر ما يميز (وليمة متنقلة) هو رسم صور الحالات المتبدلة للجمال الفرنسي .. على جانب آخر نقرأ في (عراقي في باريس):

(“أنا لست لصاً أيها العراقي الحقير”. صرخ وبحركة مباغتة وجّه لكمة إلى وجهي ودفعني لأقع على الأرض، وأغلق الباب. أخذت الدماء تسيل من أنفي فأخرجت تي شيرت من حقيبتي ووضعتها فوق أنفي. ظللت اضغط على زر الجرس إلى أن ظهر زياد ثانية وألقى بمحفظة أوراقي في الشارع وهو يصرخ: “ما الذي ورطني معك؟ .. لقد أقسمت أن أقطع علاقتي بالعرب. إنهم لا يحبون إلا البؤس”)

إن الاختلاف ليس متعلقاً بالتباين بين حقبتين زمنيتين، وبالتأثيرات التي غيّرت من طبائع المدينة بقدر ما هو الفرق بين الاستمتاع بالوليمة، والبحث عنها .. كان لـ(همنجواي) من العوامل التي وفرت له الإقامة داخل الحفل الباريسي، بينما كان (شمعون) يفتش عن هذه العوامل دون رغبة في التخلي عن الثقة التي تُعشمه في العثور عليها

(استنشقت الهواء وعدت بسرعة لأرتقي السلم أنجز عملي وراودتني رغبة البقاء في الخارج ومتابعة المعزات في الشارع في ذلك الصباح الباكر. ولكن قبل أن أستأنف عملي ألقيت نظرة على الصحيفة. كان السباق سيجري في “انغهاين”، وهي حلبة صغيرة جميلة كانت تعد جنة الفرس ضئيل الحظ في الفوز)

يبدو تعبير (همنجواي) عن حلبة السباق كأنه وصف لباريس نفسها .. تشكيل أمين لعلاقة أحلامه بوعودها، وكشف دال للحظوظ العملية، والحسية التي كافأته الإقامة فيها .. الوجه الذي أراد المتشرد العراقي الاهتداء إليه:

(“أنت لا تعرف إلا الحديث عن الأفلام، لماذا لا تكتب سيناريو عن سرقة مطبخي، ها”. وخرجت مهتاجة. في صباح اليوم التالي تركت لي تحت الباب رسالة تطلب فيها أن أترك البيت في أقرب فرصة)

إن الشكلين المتمايزين للحضور الباريسي ربما يتجلى في صورته الأكثر حدة حين يقف ذهنك عند النقطة الفاصلة بين أن تكون مشاركاً في تكوين حياة، وبين أن تمارس تلك الحياة تأثيراً على وجودك الذي لم يُقدّر له أن يعيشها .. النقطة الفاصلة هي (سكوت فيتزجرالد) .. لنقرأ (همنجواي):

(وكان صعباً جداً طوال ذلك الخريف ولكنه أخذ يعمل في كتابة رواية عندما لا يكون ثملاً. ونادراً ما رأيته صاحياً، ولكنه حين يكون صاحياً يصبح لطيفاً ويروي النكات وأحياناً يسخر من نفسه. بيد أنه عندما يكون سكران، يأتي إليّ عادة ويجد لذة في التدخل في عملي كما تتدخل زيلدة في عمله. وقد استمر هذا الوضع سنوات، ولكن، لسنوات كذلك، لم يكن لدي صديق أكثر إخلاصاً من سكوت حين يكون صاحياً)

كان (همنجواي) مساهماً، وشريكاً في تشييد عالم (سكوت فيتزجرالد) الباريسي .. فاعلاً في اشتباكات (فيتزجرالد) مع الكتابة، والسُكر، وفي عمق توترات الأحوال العصيبة لعلاقته بزوجته .. ماذا عن (صموئيل شمعون):

(لم أعد ذلك الطفل المغامر الذي يرغب في مد الخيط لطائرته الورقية. فالطائرة كانت أمامي الآن محطمة تماماً. كنت أشعر تماماً مثلما شعرت وأنا أقرأ قصة سكوت فيتزجرالد

“Babylon Revisited”

. والآن اكتشف، أيضاً، أنه لم يكن صدفة أبداً أنني كنت أعيد قراءة تلك القصة المرة تلو الأخرى. إنني أرى أمامي الآن سكوت فيتزجرالد واقفاً في بار فندق ريتز يشرب الويسكي وهو محطم نفسياً تماماً).

كأن التجربة التي تم ترتيب تفاصيلها بين (همنجواي)، و(فيتزجرالد) في العشرينيات احتفظت بها باريس حتى وصول المتشرد (شمعون) إليها، كي تعطيها له كخبرة ذهنية في الثمانينيات

هل المقارنة بين الأماكن لا تعنيني حقاً؟ .. قد أكون كاذباً لو قلت أن هذا صحيح مائة في المائة .. لماذا؟ .. لأن هناك إغراء جدير بالاستجابة يحّرض على اقتفاء أثر التطابق بين الأماكن الباريسية في (وليمة متنقلة)، و(عراقي في باريس) .. إنه التعرّف على مدى الصلابة الثابتة للجغرافيا التي لا تتغير عبر الأزمنة مقابل تنوّع وجوهها غير الملموسة، والتي يرى كل قادم إليها الوجه الذي يليق به.