أعود مرة أخرى للصراع الدائر في مصر ، كثير من النشطين السياسيين يرون أن الصراع هو صراع قائم على توجهات سياسية أو بالأحرى صراع ايديولوجي إلا أنه في الجقيقة هو صراع طبقي … صراع بين النخبة البرجوازية و باقي طبقات المجتمع من يستطيع السيطرة على الحكم ؛ خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة أستطاعت البرجوازية المصرية أن تعود مرة أخرى على سطح الأحداث و تضع سيطرتها على الحياة السياسية المصرية ، بعد فترة كانت فيها بعيدة و لو نسبيا عنها.
كثيرون لا يعرفون تاريخ البرجوازية المصرية و كيف تكونت ، فالبرجوازية المصرية أعتمدت في الأساس قديما على الحيازة الزراعية بالرغم إنها لم تعرف الملكية الخاصة بالأرض إلا في نهايات القرن التاسع عشر ، و من قبل منذ عهود الفراعنة القدماء كان فرعون أو الملك هو مالك الأراضي الزراعية و الكل يعمل تحت أمرته ،و استمر ذلك على مدار التاريخ الدولة أو الحاكم هي المالك للاراضي الزراعية و تهبها للأمراء و رجال الحكم إيجارا لزراعتها.
بعد الحرب العالمية الأولى كان الصراع على أشده بين البرجوازية المصرية التي أشتد عودها و أصبحت لا تكتفي بوجودها المتميز فقط في المجتمع المصري بل بدأت تطمع في السلطة ، و حتى يتم إبعاد الطبقات الدنيا المتمثلة في العمال و الفلاحين للوصول إلى البرلمان أشترط قانون الإنتخابات الذي صدر عام 1930 في من يتقدم بالترشح بتسديد مبلغ 50 جنيه لمجلس النواب ، 100 جنيه لمجلس الشيوخ  ، ثم عدل القانون عام 1935 بزيادة المبلغ إلى 150 جنيه لكل من المجلسين ، و كان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على التركيب الطبقي لممثلي الأمة في البرلمان ، و قد وصفه اللورد كتشنر ممثل الإحتلال في تقرير رفعه إلى حكومته عام 1913 فذكر أن الجمعية التشريعية الجديدة تتكون من الآتي :
االمـلاك    …………………………..     39
المحامون    ………………………..      8
التجار    …………………………….     4
العلماء و الآباء الروحيين     ……….     3
المهندسون     ……………………..    1
سنجد أن العمال و الفلاحين غابوا تماما عن التمثيل داخل البرلمان ، فهذا القانون المجحف استبعد الشريحة الأكبر من المجتمع المصري ، حتى أن صياغة دستور 23 جاءت مربكة ففي الوقت الذي تضمن فيه الدستور أن شكل الحكم في مصر نيابي ، و السلطات مصدرها الأمة هذا بالإضافة إلى الحريات الآتية: الحرية الشخصية ، و المساواة في التمتمع بالحقوق المدنية و السياسية ، و حرية الرأي ، إلا أنها في نفس الوقت أعترفت في المذكرة التفسيرية التي صدرت بهذا الشأن بإرتباط هذا التعديل بالحركة الإشتراكية و الشيوعية التي تجتاح البلاد و جاء بها : “إن بعضا من الحرية الدستورية لا يمكن تطبيقه على حملات تحمل على اساس الهيئة الإجتماعية كخطر الدعوة البلشافية الموجودة الآن ، فأنه يضطر جميع الحكومات إلى إتخاذ تدابير قد تكون مناقضة للمبادىء المقررة بالدستور ، لأجل ضمان حرية أهل البلاد المسالمين و الموالين للقانون.” لذا جاء قانون الإنتخابات لسنة 1930 بتعديلاته عام 1935 للحفاظ على التمايز الطبقي داخل المجتمع المصري في تضاد مع ما تضمنه الدستور  من الفاظ مثل الحرية الشخصية و المساواة في التمتع بالحقوق المدنية و السياسية و حرية الرأي.
نلاحظ أن الصراع بين الطبقة البورجوازية التي أرادت أن يكون لها دور في الحكم و بين الملك قد مال في بداية الأمر لصالح البورجوازية المصرية التي أدركت أن وضع صلاحيات كبيرة في يد ملك واقع تحت الحماية البريطانية قد يكون خطرا على الديمقراطية و الحريات ، فكتب عبد العزيز فهمي خطاب مشهور إلى رئيس الوزراء في 15 إبريل 1923 يقول فيه : “إذا كان سيادة الأمة و كونها مصدر كل سلطة ، هي أهم ما تسعى الشعوب لحمل أمرائها على الإقرار به لها ، و هي التي تقوم الثورات و تثل العروش لإستنقاذها من براثن هؤلاء الأمراء ، فما معنى أن تكون السيادة آتية لمصر  من أنياب الإنجليز ، بعد الجهود و التضحيات الكبرى التي قام بها المصريون في وجه الإنجليز ، ثم يأتي إناس من المصريين أنفسهم ، فيهبونها غنيمة باردة لأمراء البيت المالك؟!”
و على كل فإن طبيعة الصراع الذي دار بين الطبقة البورجوازية و الملك من ناحية و الأستعمار من ناحية أخرى كان صراعا على السلطة و التي عبرت عنه بشعارها الإستقلال و الدستور ، و إن كانت أنتصاراتها أمام المحتل الإنجليزي كانت أكثر وضوحا خاصة بعد إبرام معاهدة 1936 ، و الغاء تصريح 28 فبراير ، ثم الغاء الأمتيازات الأجنبية في مؤتمر منترو بسويسرا 1937 ، و في المقابل كان نجاحاها في صراعها مع الملك محدودا بسبب الصراع الحزبي داخل الطبقة نفسها ، مما أدى إلى تحالف أحزاب الأقلية أو الأحزاب التي أنشقت عن الوفد ، بالإضافة إلى الحزب الوطني الذي كان يقود الحركة الوطنية قبل الحرب العالمية الأولى مع القصر ، فضلا عن الأحزاب الموالية للملك مثل حزب الأحرار الدستوريين ، أدى هذا الصراع الداخلي إلى أنصراف الأمة إلى صراع من أجل الدستور و ليس من أجل الحرية و التنمية بعد أن اصبح القصر الملكي هو مصدر للسلطة و ليس الشعب ، هذا ما أوصل الحياة السياسية المصرية إلى نوع من الفوضى قبل ثورة 23 يوليو 1952 و مهدت الطريق لقيامها.