لم يكن الإعتداء الذي شنَّه إرهابيون يوم الأربعاء الماضي مستهدفاً مقر جريدة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة يُعَّد الأول من نوعه، فبالرغم من تَعرُّض نفس الجريدة منذ ثلاثة أعوام وتحديداً في نوفمبر 2011م إلى إعتداءات أدت إلى إحراق مكاتبها عقب نشرها عدداً خاصاً يحمل عنوان “شريعة إيبدو” والتي تضمنت صوراً وإساءات للنبي محمد إلاًّ أن العدد الأخير والذي تصدَّر “أبو بكر البغدادي” صفحته الأولى كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.

قبل ذلك كانت “شارلي إيبدو” تنهار، فبالنظر إلى عدد المبيعات الذي لا يتجاوز ال 5 آلاف نسخة أسبوعياً، كان من الممكن أن تغلق الجريدة أبوابها خلال عامين على الأكثر، لكن الحادث الأخير كان بمثابة طوق النجاة، فحصلت على دعم مالي ضخم من وزارة الثقافة وجوجل ومجموعة الجارديان الإعلامية ناهيك عن الدعم اللوجيستي المحلي والدولي للنشر والتوزيع. فالإرهاب لم يحقق نجاحاً في إجبار المحررين على السكوت بل زادهم إصراراً على التمسك بحقهم في التعبير مع تسليط الضوء بشكل أكبر على أعمالهم التي لم يسبق لأي عمل تناول بشكل ناقد أو ساخر نبي الإسلام أن حقق نجاحاً وإنتشاراً واسعاً كما حققته أعداد شارلي إيبدو.

جذبت أحداث باريس الإرهابية أنظار العالم إلى الخطر الذي تٌسببه “داعش” لأوروبا وكافة المجتمعات الحُرَّة الديموقراطية، ولكن هنا في الشرق الأوسط فقط تجد من يُحدثك عن أن تنظيمات مثل “الدولة الإسلامية”، “طالبان”، و”النصرة”، وغيرها هي صنيعة غربية أمريكية لإستهداف إستقرارنا وأمن دولنا. وتجد أولئك الذين ينسجون أوهام المؤامرة “الصهيوماسوصليبية” وكأن التنظيمات الإرهابية بإختلاف مرجعياتها خرجت من رحم مبادئ الثورة الفرنسية أو وثيقة الحقوق الأمريكية لا من صُلب القرآن والسنة وصحيح البخاري وخطابات السلف، بل وكأن حياتهم كانت غاية في التقدم والعلم والحرية قبل أن يَدُّسْ العالم أنفه في شئوننا. هؤلاء عليهم أن يَعوا تماماً أن العالم أصبح يتعامل معنا بإعتبارنا مستنقعاً يجب عليهم أن يتدخلوا لتنظيفه أولاً بأول قبل أن تنتقل إليهم أمراضنا التي خلفتها جراثيم الرجعية وأصبحت ملازمة لمجتمعاتنا لدرجة أننا ألفناها بيننا فلا نتدخل لمعالجتها. تلك هي الحقيقة التي تبررون تعاميكم عنها!

الحقيقة أن ردود أفعال الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة على الحادث الإرهابي إتَّسمت “بالشيزوفرانيا”، فالمملكة العربية السعودية أدانت بشدة هذا العمل الإجرامي وفي خلال 24 ساعة كانت تنفذ عقوبة جلد الناشط الليبرالي “رائف بدوي” في إحدى الساحات العامة عقاباً له على إستخدامه الحق في حرية التعبير، أما مصر فبعد إدانتها للحادث بثلاثة أيام تم الحكم على الطالب “كريم البنا” بالسجن ثلاثة أعوام لإعلانه إلحاده على موقع فيسبوك، ناهيك بالتأكيد عن الكليشيهات الجاهزة والمعدة للهروب من الواقع مثل “الإسلام ينبذ العنف” و “ليس هذا هو الإسلام الوسطي المتسامح” وغيرها من العبارات التي يرددها الأفراد في مثل هذه المواقف، أما على الجانب الآخر فتجد المؤيدون إنتقاماً للدين وإعلاءً لكلمة الله وإحياءً لثقافة الجهاد .. نعم هؤلاء الأشخاص الذين يحملون الأفكار والنية وعلى قوائم الإنتظار للإنضمام لأحد التنظيمات الإرهابية. هم فقط لم يحصلوا على فرصتهم بَعد لإثبات أنهم أكثر إسلاماً من الجميع.

كل ما علينا إذن هو مواجهة ذلك الواقع المؤلم الذي نعيشه، ونعترف بأننا سنظل حبيسي جدران الجهل والتخلف طالما يُصر المجتمع على التمسك بالأصولية الدينية والتفسيرات الغيبية بل وإعتبارها قيماً مطلقة لا يجوز لأي فرد كان أن ينتقدها على حساب إعمال العقل وتقديم رؤى علمية وفلسفية قادرة على مواجهة سيطرة ودوغمائية المؤسسات الدينية التي تتحكم في عقول الكثيرين. إن تشكيل الوعي يبدأ من نقد الذات أولاً ثم التحرر ثانياً من كافة الأفكار الرجعية ثم تبني قيماً ومبادئ حداثية تكون مرجعيتها الإنسانية والسلام والتعايش المشترك.