أعلم أنني تأخرت كثيرا لاستكمال تلك السلسلة التي بدأتها ، ولكن ذلك كان لأسباب خارجة عن إرادتي ، و لكني عدت اليوم أكثر حماسا و إصرارا على إستكمال ما بدأت ؛ خلال قراءاتي للتجهيز لمقالي الثاني ضمن تلك السلسة التي أردت من خلالها شرح التغيرات التي حدثت في مصر خلال الخمسة و العشرين عاما الأخيرة و كيف و صلنا إلى هذه الدرجة و إلى “أين نحـن ذاهبون” ، طفت على سطح الأحداث قضية في غاية الخطورة و هي قضية الغذاء و إكتفاء مصر من أحد أهم المنتجات الزراعية و هي “القمح” ، فخلال السنوات الأخيرة أرتفعت اسعار القمح في العالم إلى مستويات غير مسبوقة ، مما زاد العبء المالي على الدولة لتوفير رغيف العيش بسعر مناسب ، ليصل سعر الرغيف الصالح للأكل إلى 25 قرش.
فجرت القضية من خلال برنامج مانشيت بقناة “أون تي في” بعد استضافته الأديبة و الصحفية “سكينة فؤاد” و التي أطلعتنا على تجربة مصرية رائعة أقدمت عليها إحدى الباحثات في مجال الأنثر بولجي ، و التي أثبتت أبحاثها و تجاربها الفعلية إلى إستطاعتنا زيادة ناتج الفدان إلى أرقام قياسية نستطيع لو عممنا هذا المشروع أن يكون لدينا أكتفاء ذاتي من القمح ، لن أسترسل في الحديث عما قيل في البرنامج و لكن تلك الحلقة و أيضا الحملة التي أطلقها عددا من المدونين النشطاء لعودة زراعة القمح مرة أخرى في مصر جعلني ابحث في مكتبتي عن كتب تتحدث عن هذا الموضوع و بالفعل وجدت كتابا يتحدث عن تجارب زراعية حدثت خارج مصر في منتصف سبعينات القرن الماضي و كيف تم إجهاضها !
في عام 1943 أقامت مؤسسة روكفيلر مركزا علميا مهمته مساعدة فقراء الفلاحين في دولة المكسيك من خلال أحد علماء الزراعة اسمه نورمان بورلوج ، الذي بدأ ما عرف وقتها بثورة القمح الهادئة و الذي أستطاع أستنباط سلالة جديدة تعطي إنتاجية كبيرة للفلاح ، و بالفعل أستطاع هذا المركز أن يصل بدولة المكسيك إلى الإكتفاء الذاتي من القمح عام 1956 ، و في عام 1963 اقامت الحكومة المكسيكية بمعاونة من مؤسسة فورد المركز الدولي لتحسين الذرة و القمح مشروع أطلق عليه CIMMYT و حقق نجاحا باهرا ، و في عام 1964 كانت المكسيك تصدر أكثر من نصف مليون طن سنويا من القمح.
لم يكتفي السيد نورمان بورلوج فقد كان طموحه كبيرا و انتقل بمشروعه إلى كل من الهند و باكستان فقد كانت كل من الهند و باكستان تعانيان من أزمة غذائية كبيرة و أضطرت الدولة حينها أن تستورد 25,4 مليون طن من الحبوب فيما بين أعوام 1961 و 1965 و كان تعدادها في ذلك الوقت 480 مليون نسمة.
و هنا جاء دور السيد بورلوج في الذي قام بتجهير حمولة مكونة من 35 شاحنة من بذور القمح المحسن وراثيا و تم شحنها إلى ميناء لوس أنجليس لنقلها إلى الهند إلا أن الشاحنة تعرضت لكثير من المضايقات من السلطات الأمريكية إلا أنها في النهاية و صلت إلى الهنـد ، و نجح مشروع السيد بورلوج و في عام 1979 وصل إنتاج القمح في الهند إلى رقم أعتبر في ذلك الوقت تاريخي 131 مليون طن لتتحول الهند من دولة مستوردة للقمح إلى واحدة من أكبر دول العالم المنتجة له ، حتى أن مصر في عام 2002 لجأت لباكستان لتوفير ما تحتاجه من القمح.
بالطبع مثل تلك المشروعات لا يمكن أن تمر مرور الكرام ، فالدول و المؤسسات الرأسمالية الكبرى تعرف جيدا أن من يمتلك غذائه يمتلك قراره و بدأت عمليات إجهاض المشروع من ثمانيات القرن الماضي ، بدعوى أن تلك السلالات الجدديدة تستهلك الكثير من الماء و المخصبات مما سوف يأتي بآثار سلبية على الأنهار و الترع كما أنها قد تتسبب باستنفاذ موارد المياه الجوفية و تعجل بتمليح التربة إلا أن الحكومتين الهندية و الباكستانية لم تتراجع و استمرت في مشروعها و هي اليوم لديها إكتفاء تام من القمح و الحبوب و تصدر كميات لا بأس بها.
لم يكتفي السيد بورلوج بما حققه في الهند و باكستان و قرر الأنتقل بمشروعه إلى أفريقيا ، و هنا ثارت المؤسسات المالية المسيطرة على سوق الحبوب في العالم ، و ضغطت على الحكومات لإيقاف هذا المشروع ، و بدأت الحرب لإيقاف المشروع و قررت مؤسستي فورد و روكفيلر كذلك البنك الدولي الإنسحاب من المشروع بعد أن نشرت في الصحف تقارير أن الأستخدام المكثف للأسمدة الكيماوية سيتسبب في تلويث المياه ، كذلك تلك الأسمدة تسبب السرطان ، و بالفعل نجحت تلك التقارير في تحريك أحزاب الخضر في أوروبا و قاموا بحملة كبيرة لإيقاف المشروع ، و لكن هؤلاء المثاليين و قعوا في الفخ الذي تم التخطيط له ببراعة ، فالإحصاءات التي نشرت في تلك الفترة لم تكن خاصة بأفريقيا بل هي خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية و تناسى هؤلاء أن اراضي القارة الأفريقية لا تحتاج إلى أستخدام مكثف للأسمدة الكيماوية و أن اراضي القارة السمراء غنية و خصبة بطبعها ، و غضب السيد بورلوج كثيرا و قال : ” إن بعض المناورين في دول الغرب هم ملح الأرض ، لكن الكثيرين منهم يؤمنون بحق النخبة ، هم لم يجربوا يوما الإحساس بالجوع ، يناورون من مكاتبهم الفخمة في واشنطن و بروكسل ، لو أنهم عاشوا شهرا واحدا في العالم الثالث – و قد عشت أنا هناك خمسين عاما – إذا لطالبوا بالجرارات و الأسمدة و قنوات الري ، و لغضبوا إذ يرون مثل هذه النخبة في بلادهم ينكرونها عليهم” .
لم تفق أحزاب الخضر في العالم إلا متأخرا بعد أن تم بالفعل إيقاف مشروع بورلوج و أستمر الجوع يأكل الفقراء في العالم حتى وصلت آخر الأحصاءات أنه في كل دقيقة يموت من الجوع في العالم الثالث 30 شخص يشكل الأطفال أكثر من نصفهم فإلى اين نحن ذاهبون !
2 تعليقات على إلى أين نحن ذاهبون ؟ ( 2 )
أهلًا عمرو،
لم تخل مقالتك من خيوط لنظرية المؤامرة، ولكنها، بعيدًا عن ذلك، تبدة مقالة صادقة ومنطقية تمامًا.
فقد سمعت أنا شخصيًا كثيرًا عن أن زراعة القمح مضيعة للمال والجهد والماء في مصر، ولكن لم أفكر في أن قمح الهند أو باكستان أو أمريكا قد يضيع نفس نسب الماء، وكانت مقالتك مثل حلقة الوصل – طرق الزراعة هناك مختلفة تمامًا.
أمّا بالنسبة لأحزاب الخضر، فهي دائمًا وأبدًا، حتى وإن حسنت نواياها كما تقول، أحزاب رجعية، وحتى إن كانت يسارية تقدمية اسمًا، فهي رجعية فكرًا.
أهلا يا أحمـد
نظرية المؤامرة موجودة و مش بعيدة ، و موضوع عدم جدوى زراعة القمح في مصر كذبة امريكية ، مصر لم تتخلى عن زراعة القمح إلا منذ عام 1978 بعد رجوع العلاقات المصرية الأمريكية مرة أخرى ، و الدليل هو نجاح جميع الدراسات التي قام بها المركز القومي للبحوث الزراعية في استنباط سلالة جديدة من القمح يعطي إنتاجية تزيد مرة و نصف عن البذور التقليدية و لكن تم إجهاض كل تلك الدراسات و الأبحاث لصالح الإستيراد من امريكا.
أما عن أحزاب الخضر لم اقل أنهم رجعيين بل هم كانوا مثاليين أكثر من اللازم أعتمدوا على تقارير صحفية و أغفلوا أن الكثير منها خادع ، و لكنهم تراجعوا و أعلنوا خطئهم.
نظرية المؤامرة موجودة و لن نستطيع أن نغفلها ، فهي مصالح سياسية و مالية كبيرة … مصر تستورد سنويا نصف إستهلاكها من القمح حوالي 7.5 مليون فدان بتكلفة تصل إلى مليار و 300 مليون دولار سنويا هناك مافيا داخل مصر مستفيدة من ذلك … و للأسف الشديد تركت هيئة السلع التموينية حقها في الأستيراد المباشر و جعلته في صالح الشركات الخاصة ، فشاهدنا قضية القمح المسرطن ، حتى وزارة الزراعة تعاقدت مع شركات خاصة لتوريد بذور القمح للفلاحين فجاءت تلك البذور ايضا مسرطنة لا تعطي أية إنتاجية
إنها مافيا سياسية و أقتصادية كبيرة تؤكد نظرية المؤامرة