لم أغادر رواية (حسن الختام) كعابر اُحتُجر بعض الوقت بين صرخات مظاهرة نسوية صدئة .. نعم .. هناك جرعات مشبعة في الرواية تكفي المدمنين على تعاطي ذلك النوع من القهر .. هناك حكاية للجدة مثلاً سندرك أنها أرض يقينية صلبة للسرد .

لكنها ليست كل المساحة التي أرادت الرواية توسيع حدودها .. بشكل أدق ربما لا يمثل ذلك الإيمان الكلاسيكي بالانسحاق أمام الجبروت الذكوري أكثر من قشرة ضرورية، شفافة، هشة، تحرّض على اختراقها، والمرور نحو التورط في هاجس مبتكر .. عادة لا استخدم هذه الكلمة: (الابتكار)، وذلك لأسباب تتعلق بالإيحاءات التقليدية المبتذلة، المضللة التي تستدعيها في الكتابة عموماً، لكن هناك أعمال تُجبرك بالفعل على أن تُطلق عليها براحة ضمير خالصة ذلك التعبير: ذات فكرة مبتكرة

(التخدير الموضعي لا يحتاج لأكثر من تذكر حواديت جدتي .. في الأزمان البعيدة، وذات مساء عاد الرجال من الحرب، كانت أسرّتهم دافئة، أولادهم ينمون كل يوم، أراضيهم مزروعة بالقمح، وكالعادة خرجت النساء تقتسم مع الرجال ما عاد به المحاربون، لكن سيدة واحدة كانت غائبة، جلست بجوار طفلها الرضيع المحموم، فأعلن زوجها أنه سيأخذ نصيبها. في المرات التالية كانت امرأة أو أكثر يكون لديها مهام تشغيلها عن توزيع الغنائم، وأخذ نصيبها، وكان الكل يردد فلتسترح النساء فالرجل في نهاية الأمر يعود بنصيبه ونصيب زوجته إليها، بعد العديد من المرات لم تعد هناك امرأة تخرج عدا تقسيم الغنائم عدا امرأة واحدة كانت تصر على حضور القسمة، اتهمها القوم بالشره، فهجرها زوجها ونفتها القبيلة بعيداً وبقيت وحيدة، منبوذة، هي وطفلتها التي كانت في أحشائها، هذه المرأة صارت أماً لكل المنبوذات الوحيدات)

أسهل ما يمكن أن تمارسه (حسن الختام) هو تثبيت ذلك الاقتناع غير المُكلِف بأن (استنساخ ابنة) هو قرار أكثر راديكالية من كافة الأنماط البديهية المتوقعة للاستغناء عن الرجل .. أكرر ثانية أن الرواية لا تبخل على الإطلاق بتوفير دلائل الاطمئنان التي يحتاجها من يريد الاكتفاء بالوقوف عند باب المغامرة…

(أي شيء في بداياتنا الأولي لم يكتمل فيظل يؤرقنا ونرتد دوما إليه؟ في عائلتي النساء دائما الأكثر حضورا، في حين يبدو الرجال كأنهم يلعبون أدوارا شرفية، كملوك مخلوعين، مطرودين عن عروشهم، مثل محاربين قضوا عمرهم في فتوحات ومعارك بعيدة وعادوا لأرض الوطن ليجدوا بيوتهم مفتوحة وأسرتهم دافئة وأعراضهم مصانة، والحياة ترسخت قواعدها وتفاصيلها اليومية، لكنهم ما زالوا لا يصدقون أن الحوريات تحكم الآن، يرفضون هذه الحقيقة فيأخذون مخصصاتهم كاملة: بعض من المباهاة، وكثير من عدم الاتزان وينالون كل ما تحتاجه التحف من تبجيل وتقدير، لكنهم لا يتسربون إلى الروح، ولا يبقون فيها أي أثر سلبي أو إيجابي)

 لكنني رأيت طموحاً أكثر إصراراً يحلم (الاستنساخ) بتحقيقه .. إلحاح على التمسك بضوء لائق بالمخاطر الذهنية التي تجاوزتها الخطوات الثورية للفكرة .. ذلك الضوء قادم من أعمال (رودان) .. فلنقرأ ما كتبته (صفاء النجار) هنا تحديداً، كي نكتشف (الاستنساخ) متخلصاً من نسويته السهلة، التي ليس عيباً لو خدعتك:

(تعلمت أن أرسم لوحة، لكني لم أتعلم كيف أقيم علاقة صحيحة كاملة، علاقاتي من طرف واحد، ناقصة، مشوهة، ربما لهذا السبب أحببت أعمال رودان، كان يمكن لحياتي أن تظل ناعمة، مخملية، لكنه رودان من جعلني أحب فنية القبح، الإنسانية في أقسى ظروف ضعفها وبؤسها، تمثاله لامرأة عجوز وجسدها المتهدم وثديها جراب فارغ يسقط على سرتها، انثناءات العضلات المترهلة، التحدي لنسب الجمال الراسخة والمتعارف عليها،هذا الجمال الناقص أصبح يجذبني، الأشياء المبتورة تفسر علاقاتي، وتجعلني أتعاطف مع نفسي والحياة التي لم تعشها )

هكذا يمكن تفحص (الاستنساخ) بعين (الاحتياج إلى الخلود) .. إنجاز لوحة نقية للنقصان، والتشوه .. يأخذ الأمر صيغة الاستمرار الذاتي، الرغبة في المواصلة، ولن أكون مبالغاً لو تصورت أيضاً السعي للانتقام، ومعاقبة العالم ـ ولو كمجاز جسدي ـ بمنحه صورة صافية من القبح الشخصي كامتداد مستحق .. لن يكون صعباً حينئذ على أي منا ـ فقط حين يتجاوز صخب المشاجرة الأزلية بين الأولاد، والبنات! ـ استبدال لعبة الضحية، والجلاد بلعبة التحايل على الفناء .. فلنتذكر الآن أن تعريف (التحايل) في المعجم: (تحايل على الرجل أو الشيء: سلك معه مسلك الحذِق ليبلغ منه مأربه) .. أي أن الاستنساخ كان بمثابة الفعل (الحذِق) لتفادي الضياع .. سيكون متاحاً بيسر التوحد مع النسخة المكوّنة من خلاصة الجمال الناقص، والأشياء المبتورة .. هذه النسخة إما أن تصبح تعويضاً لهزيمة الأصل، أو مزيداً من التدفق لخسارة غير منتهية .. خسارة ينبغي أن تبقى كأثر لحياة لم نتجح في تصحيح تاريخها .. سيرة متجذرة للضعف .. لكنها دائماً لابد أن تعمل كحائط صد للموت

(أية قوة تسيطر على الأخرى؟ من يحرر الكائن البدائي في أعماقنا، المشكلة أن هذا الكائن وحيد لايعرف العائلة أو القيود التي تنظمنا في خلية، هو يسعى فقط لإرضاء ذاته، يتجول في الساحات الواسعة، في البراري القديمة، داخل أفكارنا، في اللا محدود من الخيال، ولكن عندما ينطلق ليتجسد خارجنا يصطدم بالمساحة التي تحاصره، القوانين والحدود، عليك أن تراعي كل المحيطين بك، فأنت لا تعيش في فراغ، فيزداد فراغك الداخلي ويتقوقع إنسانك الفطري في أعماق الظلمة، و بفعل الترسيبات والضغوط التراكمية قد يحدث الانفجار، للحظات أو دقائق أو أيام لا تستطيع التنفس كما تريد فتكون شهقة الموت/الحياة. ربما تحتاج أن تموت كي تحيا، في هذه اللحظة يعاودني سؤال: ما الذي فعلته بابنتي؟ هل يمكن لي وسط اضطرابي وحيرتي أن أتوقع كيف ستكون علاقتي بابنتي؟ وأنا التي لم أفهم طبيعة علاقتي بأمي، أوعلاقة جدتي بأمي.. جدتي حسنة الفقي الفتاة القروية الفقيرة التي أصبحت سيدة البيت الكبير وتمنت أن تكون ابنتها على الصورة التي وصلت إليها، لكن أمي كانت متمردة عليها وظل بينهما توتر مكتوم يظهر في دفعات مفاجئة)

هذه السطور تحدد خيوط، وتُشكل ألوان اللوحة المقصودة .. خيوط، وألوان أكثر تمرداً، ووعياً من السقوط في فخ النسوية الضيق .. المزاوجة التي يطمع إليها الاستنساخ بين التعويض، والاكتفاء بالبقاء كحقيقة متعيّنة لا تندثر .. المزاوجة التي تحتمي بإمكانية نقل الخلود من خانة الخرافة إلى فضاء الاحتمال .. أي من الغايتين بوسعها الصمود، والوصول إلى اللحظة التي تتحول فيها (النهاية) إلى دعابة مطموسة: وضع حد، تبدأ معه حياة مثالية ـ مبهمة ـ أم عدم تعطّل النشاط المهيمن للنقصان، والتشوه، والقبح .. لكن الحياة المثالية هنا ليست مبهمة كلياً إذ تبدو ملامحها منتزعة من المكونات الفرويدية للشخصية، حيث تمنحك إشارة قوية بأن تشييدها يتوقف على المدى المسموح به للـ (هو) كي يتحرر من سلطة (الأنا)، و(الأنا العليا) .. تعرف (الأم) أن هذا المدى مُصادر أصلاً، لذا فهناك محيط شاسع من القمع ينتظر (الابنة) وفقاً لذاكرة عائلية منسوجة من علاقات الأم، والجدة .. إذن فالرهان يتجلى أكثر انعداماً للثقة في التعويض، ويميل نحو ضمان الوجود .. البقاء فحسب كمرآة لن تُدفن، يمكن بواسطتها التطلع دائماً لوجه عاش طويلاً دون أن يراه أحد