” السنوات لا تمر بسلاسة “.
اعترف المسن.
كان صارماً، في حالة انتشاء روحي، إنما غاية في الصلابة، كرجل من البحرية أو أحد منتسبي تنظيم الكشافة القدماء، فالكشاف لمرة كشاف كل مرة. لم يكن يتألم، بدا متعادلاً كنت أعرف بأن أسفل كل هذا الصبر والجمود المتعادل، مشاعر متأججة. بلا شك. عينيه متسعتين تخفيان أكثر مما تظهران. محيطان مجهولان. وجهه الشاحب مليء بالتجاعيد المعقدة التي تجعله أقل شحوباً، تمنحه مظهر المنشغل بالتفكير العميق، أقرب إلى وجه فيلسوف يصارع معضلة أخلاقية قديمة ليبدو في أزمة بلا حل ممكن، إنما واقعي جداً. هادئ، بالرغم من أن كل أخدود من أخاديد وجهه يمثل يوماً شرساً عاشه. روزنامته الأزلية التي مضت. لحيته ناصعة مسترسلة على ملابسه الداكنة، تظهره بشكل باهر ضمن الضوء الخافت. حتى إنه بدا كإمام عباسي من القرن العاشر. لم تمر سنواته بسلاسة، هكذا اعترف خلال إحدى جلساتنا داخل مكتبته الخاصة في شمال بنغازي، كان الوقت يشير لمنتصف الليل، جالسين بين الأرفف الثقيلة، الكتب تبدو بأغلفتها تحت الأضواء الخافتة كحرس ديكتاتوري، فيما أخذ البحر يهدر من وراء عتمة الهدوء. كان يعيد ترتيب قطع حياته منذ ولادته الأولى. تحت الضوء الخافت كان حديثنا. المجلدات صامتة، بأغلفتها الجلدية، ذات الأحرف المذهبة التي تتراقص فيها الأضواء المنسابة من الطريق عبر نافذة المكتبة أو من المصباح المتدلي من السقف الرطب للممر الجانبي الذي يقود لصالة القراءة، رقصات الضوء ناعمة. أخبرني بأنه عاش طويلاً، كما قال بأنه شهد الكثير، استمعت إليه، لكل كلمة نطق بها، كنا داخل شقته التي غدت مكتبة بها ما يقارب تسعين ألف من المجلدات القديمة، حين صمت عن سرد طفولته، استمر البحر المتوسط بالحديث بعيداً، استمعت إليه أيضاً، إلى كل موجة مست تراب المدينة، موجة إثر أخرى، تكسرت زبداً، من النافذة المفتوحة كنت أرى بضع نجيمات تضيء بكسل فوق الميناء، كدأبها منذ قرون.
” لم يتغير الناس فقط، إنما أشياء كثيرة تغيرتْ “.
هكذا قال ثم أضاف مبتسماً:
” كل شيء تغير، لم أعد أميز بين الأزمان، حين أتطلع إلى الطرقات، أرى أرتال الدبابات من الجيش الثامن البريطاني لا تزال تغزو المدينة، تضج محركاتها عبر طرقات وأزقة بنغازي، كما أرى الأكشاك القهوة الإكسبيريسو، المكياطة، استمع لجنون البيتلز إلى جانب الموسيقى التي تضج في كل سيارة تسير في شوارع المدينة، شبان بملابس فضفاضة، بظهور منحنية للاستعراض وسراويل مرخاة. لم أعد قادراً على التميز، حين أطالع أحاديث العقاد عن برنارد شو، اقرأ افتتاحيات صحف الستينات، أراجع حركة السياسية في المجتمع، بما يحدث حولنا مؤخراً من حركات سياسية عنيفة إلى افتتاحيات الحديثة التي لا تقول شيئاً، اعتقدتُ دوماً بأن سبب هذا السقوط والتشويش هو الابتذال. ربما لم نعد قادرين على حماية تراثنا الحديث، لو كان هذا صحيحاً كيف يمكن حفظ التراث القديم، كما أعتقد بأن هذا الحفظ الحديدي نفسه قد يسبب الابتذال، ببقاء الشيء كما هو، دون التمحيص، التطور يجعل الأفكار القديمة المشاعة مبتذلة، الانتقاد، كشف جوانب الضعف، الإلمام بالجديد هو ما يجدد روح الحياة، منذ سنوات بدأت أشعر بهذا الاختلاف، حتى إنني حين أجلس في غرفة القراءة، أتخيل بأنني لا زلت أعيش في مارس 1955، أستمع للخطب الحماسية، أقرأ صحف تلك الأيام، أعيد قراءة الكتب ذات الأوراق الصفراء، مجلات تلك الحقبة التي خرجت من المطابع المصرية منتصف القرن الماضي، بدعايات مدهشة عن أجهزة التكيف، إنني ببساطة عشت أكثر من زمني “.
المسن أعرفه منذ قرابة عشر سنوات، أمين احدى مكتبات بنغازي، مكتبة خاصة، لا يرتادها إلا الأشباح ! عرفته عن طريق صديق مشترك، حين عرفني به، كان يكتب في دراسة عن اللغة السياسية في الصحراء، مستخدماً كتباً عن حروب السنوسيين كمراجع للدخول التاريخ الصحراوي، كنت معترضاً على كل شيء، مناقضاً فكرة انتقاء التاريخي التي يتبناها المؤرخين الشعبيين، لذا بدا لي اللقاء به كأنه لقاء مقدر، انغمست معه في تحليل كتب المتعلقة بالشعوب الصحراوية، كان يمتلك مجموعة كبيرة من المراجع، كما إنه كان قد ترجم على مر السنوات، مقالات هائلة استطاع جلبها مباشرة من الجمعيات الجغرافية والكشفية التي كانت مهتمة بشكل علني بالمنطقة حتى مطلع قرن العشرين، حين تحولت الأسرار إلى أكثر المقدسات حفظاً، كما إنه مهتم بالجمعيات السرية، التي ظهرت ولا تزال تواصل الظهور في مجتمعات الصحراء. في احدى الجلسات أراني صوراً لمخطوطات قال بأنها نادرة جداً، وإنها خرجت من مكتبة أحمد النائب شخصياً، ثم أخذ يسرد كيفية حصوله على تلك المخطوطات، ربما كانت تلك ذريعة للحديث عن التاريخ الشخصي للمكتبة، بداية من أسلافه أمناء المكتبات الذين أنقذوا جزء كبيراً من مكتبة مصطفى الخوجة، التي قررت زوجته حرقها بعد وفاته، ربما انتقاماً، كانت ضحكته مشوبة بشيء من الحزن والسخرية، حين يتحدث عن طرائف الزوجات، أخبرني كأنه يذيع سراً، عدو الأول للكتب هي الزوجة، كان المسن يتطلع إلى مبتسماً، ثم يمسح دموعه التي كادت تنفر من عينيه كلما أغرب في ضحكة مكتومة بلا صوت ترج كل جسده، لم يكن يقوى على كبح مشاعره المتأججة.
أخبرني مرة حين كان يتحدث عن بلوغه الستين، بأنه أصبح غير قادر على التحكم بمشاعره، كثيراً ما استغرق في البكاء لسماعه قصص المحزونين، وإنه لمس بأصابعه تلك القصص المتعلقة بالزهاد القدماء، الذين أخطئوا طريقهم في الحياة ليلاقوا مصائر بشعة، لم يفهم تلك المشاعر المتناقضة، ذات مرة استغرق في النشيج لأجل تذكره حكاية وفاة والده حين كان في التاسعة، كما إنه في تلك الأيام أخذ يقرأ عن الحروب الأهلية وولادة الدول، هاله مدى الدمار والموت اللذان ينشران أجنحتهما فوق المدن.
كان يتحدث بصوت هادئ، إنما لا يخلو من الحماس.
في تلك الليلة بدا كأنه يعاني أعراض نوبة هستيرية، حكا لي عن فقدانه لوالده مراراً، كان يردد الجملة الواحدة عدة مرات، فيما يشبه محاولات شبه يائسة لتذكر كل شيء، دفعة واحدة.
كصوفي قديم.
قال:
” بكيت بشدة، إنهم لا يستطيعون رؤية جمال العالم، كم يتألم قلبي ! أتطلع إلى السماء، للنجوم المضيئة، أستنشق عبير الأرض المعجونة بالماء والعرق، استمع لرقرقة المياه الجارية في الصخور كما تسحرني العيون النابعة في قلب الصحراء، أحياناً استغل المساحات في ضواحي لأستغرق الوقت مستمعا لأصوات الطيور، استشعر بلا نهاية، جمال الكون. كم أشعر بالحزن لرؤية شخص يعاني أو نحلة مقصوصة الجناح، أو طير غير قادر على الطيران، إن جمال الأزهار ورقرقة المياه في الصخور، تجعل أعصابي تهيج، عندها لن أعود قادراً على التحكم بانسياب دموعي، كم مرة بكيت لساعات بين أرفف الكتب، لأني قرأت عن موت إنسان في القرن السابع، لا استغرب بكاء الشعوب على أحبائهم من القادة، الحزن الذي لف العالم حين مات جيفارا، الأغاني التي تعيد ذكره، رثاء شوقي للمختار، قصة موت الحسين حفيد النبي، الخطب الأخيرة لإمام علي، محزنة محزنة، آه، إنها باعثة على البكاء، دموعي لا تتوقف. يقولون مجنون، تقول مجنون. لا يهم، كل هذا لا يهم، إنه لا يفقدني صوابي، كثير من رفاق دربي قالوا بأني لا أفهم ما يحدث بشكل واقعي، إنني لا أعي أبداً ما أقول ليكن، من بوسعه فهم الآلام الآخرين؟ من بوسعه فهم كل هذا الجنون؟ بالتأكيد لست أنا. مطلقاً، إنني أبكي بشدة، لأنهم غير قادرين على رؤية جمال الكون وآلامه ! لم أفهم الصوفية يوماً، إنما مشاعر الحب والخوف كانت دائماً تحتاجني، كل مظاهر الطبيعة، تحوي عبراً عن الحب والخوف “.
ليس دائماً بهذه الصوفية !
غالباً ما نترك حديث المشاعر بعيداً لنشرع في قصص واقعية عن ماضيه أو عن فترة طفولتي في تازر، إنما ما كنت لأرتكب خطيئة الحديث عن حياتي أمام مسن في التسعين! يلتهم الوقت، لكي يسرد ما عاشه، إنه محتاج لكل ثانية، مطلقاً لن أرتكب خطيئة الحديث عن ذاتي، لذا تحكمت بجنوني الشخصي، واستمعت إليه بعمق كامل.
كنا جالسين في تلك العتمة، ربما لليلة الثانية بعد العشرين، تحكمنا نصوص قديمة، كما تحكمنا أحداث وقعت قبل عدة عقود. كنت في تلك الفترة قد عرفته جيداً، بالرغم من إنني لم أكن أعرف تاريخه الشخصي، إلا إنني فهمت شخصيته الحقيقية ثم حين بدأ الحديث عن مكتبة أحمد النائب، شرح قليلاً عن نفسه، إنما لكي أعرف عنه أكثر انتظرتُ قرابة السنة لكي أجمع ما يساوي أكثر بقليل من ألف كلمة، في شرحه عن عائلته، شرحاً لم يتعلق كثيراً بالمكتبات، بالنسبة لرجل قضى قرابة سبعين سنة في المكتبة. لم يكن يحتك خلالها كثيراً بالناس، كانت تلك العقود في مجملها سنوات عزلة، عاصر خلالها مدينته، كمن يعيش في فقاعة هوائية، لا هو متصل بها ولا هو منفصل عنها، إنما يعيش في قلبها بمشاعر العزلة كاملة، كان يعبر الطرقات، يقرأ مانشيتات الصحف، منذ الستينيات حتى تلك المرة التي اعتزل فيها نهائياً، مقرراً عدم الخروج للأبد، كان ذلك عام 2003 حين تعرف على شاب، يرتب له حياته، داخل المكتبة، لو لم أكن عاصرته، عشت معه، لو لم أكن رأيت بأم عيني أسلوب حياته، ما كنت لأعتقد أن يكون هناك أناس رافضون للمجتمع بقدره، لم يكن يشتم الناس، لم يكن ينتقدهم، إنما كان فقط، لا يعيرهم انتباهاً، إلا نادراً.
اخبرني عن قصة حادثة اهتم بها في شبابه.
قال:
” سنة 1965 كنت أعبر سوق الحشيش، حين استوقفني مشهد شابان يتشاجران، كان يلكمان يعضهما بشدة ووحشية، دون أن يكلف أي منهما نفسه عناء تغطية وجهه أو تفادي اللكمات، كانت القبضات المشدودة، تقع على العظام مباشرة، لتسحق تحتها اللحم وتتفجر الدماء، كلاهما مفتول العضلات كرجال البحرية. كنت أحدق فيهما دون أن أجد الرغبة في فصلهما عن بعضهما، تلك الليلة شعرت بالندم الشديد، لأني أحسست بالزهو وبالراحة حين رأيت دماء أحدهما تنزف من عينيه ليسقط مغشياً دون أن يكف عن الحركات المتشنجة. صباح اليوم التالي، قرأت في زاوية صغيرة خبراً مفاده: بأن ملاكمين هاويين كادا يقتلا بعضهما، ليلة البارحة. بالرغم الألم الذي شعرت به في الليل إلا إنني شعرتُ بالزهو ثانية، حتى إنني فرحتُ لأنني الشاهد الوحيد لتلك الملاكمة بين بطلين ولا شك، كانت العضلات المفتولة لا تزال تشتد أمام ناظري، الدماء المتناثر، وسن احدهم، رايتها ناصعة البياض في عتمة الليل، كانت ليلة مميزة، حتى إنني رغبت في مشاهدة مباريات الملاكمة العنيفة، استعدت في ذاكرتي، مباراة قديمة في مرفأ بيروت بين عملاقين مجهولين، تم الإعداد لها بدعاية هائلة مرمزة كمنشورات القوميين العرب في تلك الفترة من الخمسينات، عبر الصحف البيروتية، لقاء أموال، لم أكن أهتم كثيراً بتلك المباريات السرية، كان معي رفيق يوناني من إسكندرية، لا يعرف في الدنيا إلا شيئين: الرهان وجمع الكتب. راهن على أحدهما – الأنحف منهما بين الاثنين– قال بأنه لديه نظرة أسد وقبضتيه قويتن، ثابتين ليس مثل الآخر الأكثر ضخامة بكثير إنما يبدو بأنه كأيل، فريسة. يومها كسب الكثير من النقود من البحارة والعتالين. كان يبرر فعلته رافعاً نسخاً من رواية الشيخ والبحر، فالحياة في نظره مقامرة بلا نهاية، أتذكره ضاحكاً كالمجنون، حين أجلس في عتمة المكتبة، أتذكر لامعة القبضات، ورنة ضحكته البعيدة، إنهما أمران يدفعاني للوحدة العميقة، أكثر وحدة من منبوذ سياسي “.
السنوات لا تمر بسلاسة، مطلقاً، إذا تعلق العيش بضرورة فهم الحياة من خلال ذوات أشخاص آخرين قضوا قبل أكثر من قرن. الأنانية لا مكان لها. فالعيش في الوحدة عندها يغدو لأجل سبب نبيل يتجاوز حب الذات، بل إن فكرة الحديث عن الذات وحدها، تغدو مبتذلة، حتى وإن كان الابتذال مزاجاً عاماً، يظل مؤذياً. جميعنا نعاني الخوف من الابتذال، أليس كذلك؟ ربما لأجل هذا الخوف، نصنع جزرنا الخيالية الخاصة، هواياتنا، ابتساماتنا ولحظاتنا التي نُحيط بها بكل سرية ممكنة. هذا ما فعلته تلك الليلة، السرية المعيشية للمرة الأولى، هو نفس ما ظل يفعله صاحب المكتبة – المسن المكتباتي – منذ قرابة خمسة عقود كاملة، يُقفل على نفسه باب حجرته. طوال هذه العقود، انعزل تماماً عن باقي العالم كما فعل ذلك كثيراً في المكتبة، منذ التحقتُ به كمساعد شخصي. كل هذا فيما كانت النجوم القليلة تشع فوق سماء بنغازي، بدأتُ اسمع حفيف أوراق مذكراته، صوته الأجش الخافت أثناء قراءته لكتاب جورج برنارد شو:
جوهر الأبسنية !!
كنت أقترب منه ببطء شديد، أحاديثي معه غير مكتملة، اضطر دوماً لأن أعيد تذكر كل حديث، عقب آخر حديث، اجمع الكلمات بصبر في دفتر يضم كل ما قلناه معاً من كلمات، طوال السنة الأولى، كتبت بضبط نصف صفحة من الكلمات المتكررة، من حوالي ثلاث صفحات، تشرح حالته اليومية من أفعال روتينية، قراءة، ملابس، بل حتى السير مع عدد الخطوات التي يقطعها عبر الممر إلى أي حجرة افتراضية أخرى، ببساطة كان أقرب إلى زاهد صوفي، الجديد هو إنني قبل مدة اكتشفتُ بأنه يدون يومياته أو ربما مذكراته، أمر طبيعي بالنسبة لشخص يسكن مكتبة تحوي عشرات الآلاف من المجلدات كما أنه طبيعي أن يهتم بهذا القدر بفكرة العزلة والخوف من الابتذال، فالتاريخ الذي تخصص فيه، مليء بالأحداث المبتذلة، ذات مرة حكا لي قصة القادة الذين تم قتلهم في حفل عشاء، بعضهم كانوا لا يزالون يمضغون لقيمات في أفواههم، فيما السلاح ينهش لحومهم، كان ذلك في بنغازي، في عينيه كان بريق الغضب والحزن، مشوباً بشيء من القلق، حين أخبرني احدى أكثر الأمور التي أقلقت باله في فترة شبابه:
” حين كنت شاباً، كنتُ أخشى الموت وأنا آكل، أو أن أقتل لسبب ما فيما أحمل كيس طعامي، كنت لا أخرج من غرفتي كي لا أموت فيما أنا أحمل الطعام، حتى إنني كنت أصوم طوال الوقت، لا أكل إلا القليل، أشرب غالب الوقت أكواب الماء، حين أتذكر هذا، أدرك مدى تمكن الخوف، سيطرة الأوهام على الحياة، حتى إنني بدأت أدرك بأن الحياة لا تعني أكثر من مجرد فكرة في الذهن، لوقت طويل سيطرتْ علي هذه الفكرة التي يمكن اعتبارها أنانية محضة، لكن لكل فكرة مبرر “.
ضحك تلك الليلة، لم أجد الوقت لسؤاله عن المبرر.
كانت ضحكته، مليئة بالألم ثم قال:
” لا أظنني أضعتُ وقتي بمخاوف بلا معنى، فالتاريخ يحفظ بعض الحقائق، تستطيع أن تقرأ، ما كنت خائفاً منه، يحدث كل يوم “.
عندها استغللت لحظة هدوء ثم سألته:
” كيف كانت طفولتك؟ “.
تطلع في وجهي، كان ينظر عبري لا شك إلى طفولته، فيما كنت أتخيل دودة كتب قال متقافزاً من حكاية أخرى، أثبتها كما تحدث:
” ولدت عام 1936 بعد خمس سنوات من إعدام المختار، عبر شوارع بنغازي المدمر قضيت طفولة غير مشوقة، كانت الطرقات مسدودة بحطام المباني المهدمة بفعل القصف، والدي مات قتلاً عام 1944 أتذكر بضع لحظات معه، أما الباقي فقد التكفل الجميع بتذكيري به، ما عدا والدتي التي صمتت حتى ماتت، لم تحكي عن أبي مطلقاً، لا اذكر بأني سألتها، لا أعرف لماذا لم اسألها، كان يتوجب علي أن أفعل، أي ابن طبيعي كان ليفعل، إنما ربما لم أكن طبيعياً، لكن خالي كان أكثر من يتحدث عن أبي، خالي يوناني بحار، رافقته مطولاً في رحلات عبر البحر المتوسط، كان أعرجاً مثل قرصان، يضحك مسمياً نفسه خير الدين بربروسا، كان يمتلك ببغاء خشبية، يضعه في حالات السكر وليالي رأس السنة على كتفه، يشرع في رقصات شركسية، كما تعلم برفقتهم، فأنا بالرغم من كوني شركسي إلا إنني لم أكن أرقص مثلهم، ذات ليلة أسقوني برميل نبيذ كامل، ليوقضوا بذرة الرقص التي تجري في دمائي، حينما لم يستطيعوا شكك بعضهم في شركسيتي، كنت أضحك وقتها، ثم لفت نظرهم كما أخبروني صباح اليوم التالي بأن ليبيا تفسد كل انتماء، ثم بدأت في درس عن القرمانليين، الشركس الذين أنتمي إليهم، الأتراك والكول أغولية، كلهم تخلصوا من ماضيهم، أصبحوا ليبيين أكثر من الليبيين القدماء، أسسوا الدول، سنوا شرائع الدول الحديثة، كانوا يضحكون مني طوال الليل، فيما رحت أرقص على أنغام موسيقى حزينة عن الإبادات الجماعية والهجرة بمشاعر الوحدة، لفت خالي نظري قائلاً بأنها قد تكون أي شيء إلا أن تكون رقصة، ثم لمح بأنه كيوناني أعجب كثيراً بحركاتي الشجاعة المليئة بالشغف والمنطقية، عندها نقرت على صدري بأصبعي قائلاً: شركسي، هذا ما أنا عليه، شركسي. غمز لي مجيباً: لا يمكن نكران هذا إلا حين ترقص، فأنت يوناني. هذه الذكريات لا تكف عن التوارد إلى ذهني، عندها اشتاق لأبي بشدة، لم يفارقني هذا الإحساس حتى وأنا في هذا العمر، حتى حين قررت أن أكون الشخص الذي يمثل أبي، بالقليل الذي اعرفه عنه، ظننتُ بأني وجدتُ هويتي، طوال عشر سنوات حتى بلوغي الثلاثين كنت أباً لنفسي، كنت أفعل أشياء مجيدة وانسبها لأبي، حين أصمد في جولات الشرب، لا بد بأن أبي هو من فعلها، حين ألقي جملة جيدة لا بد بأن أبي فعلها، حين أؤدي مهامي كما يجب، الأشياء الجيدة هي دائماً لأبي، مع الوقت لم يتبق لي الكثير، لم أكن أعرف هذا، كنت أجاهد للمحافظة على القليل مما أذكره من تفاصيل والدي، الذي علمت بأنه قتل على أيدي الحلفاء، لأنه كان جندياً بالخطأ في طوابير الجند الإيطالي، الصورة الوحيدة التي أمتلكها قام بالتقاطها مصور إنجليزي لمجموعة جنود ليبيين يتم إعدادهم للقاء الأمير إدريس السنوسي، فيما هم مصطفين، كما تم نقل القصة لاحقاً، ظن والدي بأنه سيتم إعدامه. بعدها بسنوات اكتشفت جدي، أحد رفاق والدي زارنا، لبناني، تحدث عن الكثير، عما كان يؤرق والدي، معضلته كانت تكمن في والده المجاهد، هذا ما اخبرني، كان جدي رجلاً جاء برفقة الأمير اللبناني شكيب أرسلان، انضم متطوعاً إلى المجاهدين المرافقين لسيد أحمد الشريف عام 1912 انتقل معهم طويلاً من مدينة لأخرى، من جبهة قتالية لأخرى، حتى تم قتله في معركة خاطئة أمام الإنجليز على الحدود المصرية، أعدمه الإنجليز لتخوفهم من السنوسيين الموالين للأتراك عقب الحرب العالمية الأولى، الأخبار تتحدث عن إعدام جدي مع مجموعة أخرى، قبل فرار الإنجليز من الحدود المصرية، والدي لا شك أرقته هذه القصة، فحين جعلهم الإنجليز يصطفون على ذلك النحو، على الحدود المصرية بعد تصويرهم. في صورة يظهر محتداً، شاداً قبضته بعصبية، في وقفة معتدلة كعسكري بالغريزة، يبدو بأنه تهجم عليهم، فأردوه قتيلاً. كلاهما قتلا خطئاً، الإنجليز لم يعرفوا ما حدث. عندما بلغت الخامسة عشرة، كنت في عباب البحر مع خالي من مرفأ لآخر، من دولة لأخرى، دائماً كنت أجد الوقت لأتساءل عن معنى الحقيقي للتاريخ، عن سلاسة السنوات حين تمر، عن جهامة التي تبدو بها حين نعيشها، إنما كل ذلك الحزن ظل مقترناً بكل هذا الجمال الذي يشرق على اليابسة من أعماق البحار، صباحات اللامعة في البحر المتوسط، سحرت بمرافئ بيروت، إسكندرية، جزر البحر المتوسط، ثم في احدى مكتبات بيروت عام 1955 أهدتني فتاة شركسية كتاباً بعنوان: نافذة المكتبة. بين أرفف تلك المكتبة ولدت هويتي “.
إذ ذاك كانت سنواته تمر سلسة !
النص جزء من نوفيلا.
شكري الميدي أجي
أغسطس 14 – 2014
بنغازي.
تعليق واحد على تقرير غير مكتمل عن المكتباتي
أهلا شكري ومرحبا بباكورة إسهاماتك على موقع شباب الشرق الأوسط…لغة رائقة جديرة بالقراة والاستمتاع…في انتظار جديدك على الدوام