الواقع الأليم الذي يتمثل فيما تشهده منطقة الشّرق الأوسط من قمع وابتزاز ضد المرأة، باعتبارها أداة للجنس وآلة للفضيحة، هو واقع مؤسف يبعث على الحسرة والفاجعة.

إن الأغلبية العظمى من قاطني الشرق الأوسط يعيشون يوميًا في ناررٍ مستعرةٍ، لهيبها من الحكام الشموليين الذي يحكمون بالديكتاتوريّة والاعتقالات والفساد وقمع الرأي الآخر، ووقودها الدين. هذه النار شديدة الاشتعال على مجريات الأمور بشكل يصعب، بل يستحيل الفكاك منه. إن المنطقة في أغلبها تعيث في الجهل والفقر والتخلف، إلا قلة ممن يؤمنون بالحضارة والتمدن، تضيع أصواتهم وسط نباح القطيع الذي يملك صوتًا أعلى وتأييد أكثر من الغالبيّة المغلوبة على أمرها، والتي تتم السّيطرو عليها بسهولة باستخدام أداة الدين. إن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنزح، بل تنعزل عن العالم قرابة قرنين أو ثلاثة من الزمان.

تقدير القرنين أو الثلاثة ليس جزافيًا، فما شهدته آوربا من محاكم تفتيش القرون الوسطى، نشهده نحن الآن. ففي الحين الذي يحتفل فيه العالم بعد ثلاثة أيام بمرور أربعين عامًا على إرسال أول رسالة عبر الإنترنت، نحتفل نحن بأربعين جلدة إسلاميّة على ظهر لبنى أحمد الحسين. نعم، كلنا مشاركين في الاحتفال الكبير، حفلة زار الجلد، بين مراقبين ومؤيدين ومنددين، ولكن الحال يظل كما هو عليه. يبدو أن خدمة التليفونات ستظل مرفوعة من الخدمة لفترة أطول في المنطقة. ولا يوجد أدعى من تساؤل روبرت فيسك الجوهريّ الذي نعيد صياغته الآن، لماذا يحيى الشرق الأوسط متجذرًا في عصر القرون الوسطى؟!

ما حدث باختصار هو أن السّلطات السّودانيّة ألقت القبض على الصّحافيّة لبنى الحسين مع 18 فتاة أخرى، منهن مسيحيات من جنوب السّودان، في الثالث من يوليو/تموز الماضي، أثناء حفل عام، تطبيقًا لمادة في القانون تعتبر “ارتداء ملابس مخالفة للنظام العام والآداب، موجِبًا للجلد.” حيث أطلقت السّلطات سراح ست فتيات، بينما تم جلد عشر أخريات بأربعين جلدة، فيما رفضت هي واثنتان أخرتان تلك الاتهامات، وطلبن محامين وإحالة القضية إلى المحكمة.

وقد ذكرت الصّحفية السودانية، التي تكتب في جريدة الصّحافة عمودًا اسمه “كلام رجال،” أنها اختارت أن تتخلى عن الحصانة التي تتمتع بها كونها موظفة بالمكتب الإعلامي التابع لبعثة الأمم المتحدة في الخرطوم، بعدما منحها القاضي الخيار في الاحتفاظ بحصانتها أو التخلي عنها، معربة عن رغبتها في أن تجري محاكمتها كمواطنة عادية، بهدف “إظهار ما تعانيه المرأة في السودان.”

كما أبدت رغبتها في أن يتم توقيع عقوبة الجلد عليها، في حالة إدانتها، علنًا، مشيرة إلى أنها أرسلت آلاف الدعوات إلى نشطاء دوليين وسودانيين لحضور محاكمتها، في خطوة تهدف إلى الضغط على حكومة الخرطوم لتجميد العمل بالمادة 152 من قانون العقوبات، التي تجري المحاكمة بموجبها.

لقد وقفت لبنى موقفًا شجاعًا ضد تخلف وقمع سلطات السّودان في الشمال، ولم ترض بأيّة تسويات إلا أن يتم تعديل هذه القوانين الاعتباطيّة والتي تهدد حياة الأفراد، ومن هذه الوقائع بجانب رفض لبنى حصانة الأمم المتحدة التى تعفيها من المحاكمة، هنالك أيضًا وقائع أخرى مثل رفضها صفقة الدكتور محيى الدين تيتاوى رئيس اتحاد الصحفيين السّودانيين لشطب البلاغ مقابل تعهدها بعدم تكرار ارتداء ملابس مماثلة، ورفضها عفوًا رئاسيًا يرفع الحرج الدولى عن النظام ويبقى القوانين الشاذة.

وفيما اعتبرت لبنى أن هذه المادة، التي تقضي بجلد النساء، تخالف الدستور وتتجاوز أدنى مفاهيم الحريات، ومن شأنها تكريس العقوبة على فتيات أخريات،” فقد وصف محاميها نبيل أديب، وهو محامي له باع طويل في المجال الحقوقيّ، المادة نفسها بأنها “ليست ذات أهمية، بل مخزية ومثيرة للخجل، كما أنها تتضمن كثير من الانتهاكات،” داعيًا السلطات السودانية إلى ضرورة وقف العمل بها.

أمّا الحكم الذي صدر مؤخرًا لا يصدقه عقل جد. لقد فاق الأمر كل التوقعات، وبلغ السيل بنا الزّبى من هذه الأحكام التعسفيّة في حق الأفراد، فكل فرد له الحريّة في نفسه وأمواله ومعتقداته، فما بالك ملبسه؟! لقد تم، بكل أسف، الحكم بأربعين جلدة ضد لبنى، وعشرين جلدة على مرافقتَيها اللتان سانداها في الطعن في الحكم. ولكن بالفعل، كما ذكر سعد هجرس، وصمة عار من جانب الحكومة الإسلاميّة وشعاع أمل من قبل لبنى الشّجاعة.

جدير بالذكر أنه يجرى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في شمال السّودان، بينما جرى إعفاء الجنوب، الذي تقطنه أغلبية مسيحية ووثنية، من هذه الأحكام، وفقًا لاتفاقية السلام الموقعة عام 2005، التي أنهت حربًا أهلية دامت عقودًا بين الشمال والجنوب.

وعلى صعيد التخلف والقمع الممارس ضد المرأة باسم الإسلام، دين السّلام، ننتقل على الجانب الآخر تمامًا من البحر الأحمر، حيث ترزح المملكة الوهابيّة، وهي مكان صدور حكم آخر الأسبوع الماضي يقضي بجلد إعلاميّة سعوديّة تعمل للشبكة اللبنانيّة للبثّ الفضائيّ، إل.بي.سي.، ستين جلدة، لأنها تعمل لجهة غير مرخّص لها العمل في أراضي المملكة، تنشر “المجاهرة بالرّذيلة” “ومخالفة الآداب العامة.”

ألا تلاحظان أن السبب المشترك في محاكمة لبنى وروزانا، والذي ينبع من نفس المصدر الإسلاميّ الوهابيّ، هو “مخالفة الآداب العامة؟!” وهل هنالك مخالفة للآداب العامة تستوجب أربعين وستين جلدة على التّواليّ؟! وهل ارتداء البنطلون والعمل لصالح جهة غير مرخصة يعدّان مخالفة للآداب العامة في عصر الإرهاب المقنّع بالوهاب؟!

عندما أقابل امرأة تنتمي لمنطقة الشّرق الأوسط، سواء كانت تقيم فيها أو خارجها، وألمس مركب النقص هذا في شخصيتها، ألتمس لها كل الأعذار الممكنة، وسواء كانت هذه الفتاة متحررة ومنفتحة على ثقافات أخرى، أو محافظة تتشح بمظهر دينيّ، كأغلب المنطقة، يبقى هذا المركب جليًا بنسب متفاوتة، تقل بالتأكيد في الحالة الأولى عن الأخيرة، ولكني شخصيًا لم أقابل أي فتاة تخلصت تمامًا منه، والذي تشكل دعائمه الخربة تراكمات ألفاظ صدئة مثل العار، الحريم، العذريّة، الشّرف، غشاء البكارة، ساقطة، ناقصات عقل ودين، النساء مكانها البيت، النقاب، جسد المرأة، الدعارة القهريّة… إلخ من هذه الألفاظ التي تسيطر على عقليّة المرأة في هذه المنطقة من العالم، والتي تغذيها ثقافة ذكوريّة مسرطَنة ومسيطِرة سيطرة شبه تامة، من الفراش حتى اللغة الذّكوريّة المستخدمة. إنها ثقافة ذكوريّة شاذة تعاني من اضطرابات نفسيّة، ونفاق، وجاهليّة، وبربريّة، وازدواجيّة معايير حادة. فأنا على يقين تام أن من بين المائتين مواطن سعوديّ الذي رفعوا دعاوى قضائيّة ضد مازن عبد الجواد، لأنه تحدث عن الجنس في برنامج على إل.بي.سي.، هو أنفسهم “يزنون ويمارسون الرّذيلة.” ولكن الكيل بمكيالين يقضي بالمرء المنافق أن يستمتع بالجنس، ولكن هذا الاسم يتحول لأسماء أخرى وحشيّة مثل “ارتكاب الفاحشة والمنكر،” إذا سوّلت نفس أحد غير المرء المنافق أن يستمتع بالجنس هو الآخر، بل ويتحول نفس السّلوك لعار ودعارة وفقدان الشرف، بل والرجم حتى الموت، إذا أتت هذا السّلوك امرأة. نعم، إنه نفس النشاط، ولكن ازدواجيّة المعايير الأخلاقيّة تقضي على الذكر المنافق أن يطلق على النشاط نفسه أسماء مناوئة إن كان هو بمنأى مكانيّ عنه، وليس بمنأى أخلاقيّ.

ما تقدم ذكره يولّد ولا شكّ حالة نفسيّة شديدة التعقيد في صدور الفتيات العربيات أو المنتميات لعادات الشرق الأوسط الجاهليّة بصلة، وحتى إن لم تكن مقتنعة هي بما تفعله سواء كان حجابًا، أو نقابًا، أو تحفظًا في علاقة أو ما شابه، تظل مكتوفة الأيدي، أو تفعل ما تفعله إما في الخفاء، أو تتهرب من مسؤليته، أو يؤنبها ضميرها طيلة الوقت على مجرد التفكير فيه، لأنها مسجونة في غياهب مسجن الشرق الأوسط الكبير، الموصد بالعادات والتقاليد والدين، ولذا وجب عليها أن تساير المجتمع المزيف، حتى وإن كانت عكس رغبتها الحقيقيّة، إن أرادت أن تحيا وتتزوج “وتتستّر” بالمفهوم المصريّ للتستّر.

فالمرأة في مجتمعنا الشّرقيّ تشاهد أحدث عروض جوتشي لخطوط أزياء الشتاء الجديدة على موقع يو تيوب الشّهير، ولكنها تجد نفسها مرغمة في الصّباح على ارتداء الحجاب حتى تُرضي المجتمع الشاذ. وإن كانت سودانيّة، فهي مجبرة على ارتداء ملابس تراعي الحشمة، وتساير الآداء العامة، والبنطلون ليس كذلك بالتأكيد.

وهكذا تنشأ المرأة العربيّة مهشّمة نفسيًا، تلد ذريةً هشّةً منافقةً، لتكرر عملية بناء النفاق العمليّ من أول وجديد ولكن بعمق أكثر على الأجيال الجديدة، أو تمارس ما مورس عليها، وتعيد إنتاج الاستبداد والقمع مرة أخرى. تنتج لنا أجيالًا تعاني من ازدواجيّة أشد وطأةً، وتباينًا شديدًا، خاصة في الفتيات والنساء، بين ما يرضونه لأنفسهن وما يحدث بالفعل، أو ما يريدونه وما يجبرون على فعله، إن صحّ القول. لتحدث طفرة جينيّة سيئة السّمعة، تفصل فصلًا خبيثًا بين النمط الظاهريّ (فينوتايب) لهؤلاء النساء، ونمطهن الچينيّ (چينوتايب)، بافتراض رمزيّ أن الأول هو ما تبدو عليه المرأة العربيّة المتفتحة من قبليّة مفروضة عليها، والثّاني هو ما تتوقه لنفسها وهو الحداثة. هل سمعت قبل ذاك من امرأة عربية تحلم بالعمل كراقصة؟! إذن، أنت تدرك الفارق الذي أتحدث عنه. إنها تحلم بشيء لا يمكن تحقيقه في مجتمع كزيف كهذا، حتى لو كان هذا الحلم يكمن في مهنة، ولكن المجتمع يمارس لعبة الضغط المفضّلة لديه من جديد، ليرغمها على امتهان شيئًا آخرًا مغايرًا تمامًا، يقبله رجالات المجتمع، ويباركه الدين، وتقتص شريطه العادات والتقاليد. ونحن المتفرجون، وهي الضحيّة!

أتذكر وبشدة ما قالته المخرجة اللبنانيّة الرّائعة نادين لبكي في برنامج بوابة الشمس، البرنامج الذي كان يُعرض على قناة القاهرة والناس في رمضان الماضي، مع الإعلامية الفلسطينيّة رولا چبريل، والتي تعيش في إيطاليا وتحمل الجنسيّة الإيطاليّة، ومع ذلك باركت كلام نادين، لأنه الواقع التي تلمسه هي شخصيًا رغم معيشتها الآوربيّة. لقد قالت نادين بالنص اللبنانيّ، “بدي أكون زي بطلتي في سكر بنات، ما بدي أخاف من جسمي، في مشكلة كبيرة عندنا في العالم العربيّ، هي إن الست العربيّة بتخاف من جسمها. العلاقة بالجسد كتير معقّدة، بعدنا في كتير مواضيع بنتهرب منها وما بنقدر نواجهها أو نحلها… المرأة العربيّة عندها كتير شغف بشخصيتها وبحياتها، عندها كتير طاقات، بس بذات الوقت، كأنه في حواجز مثل المجتمع ونظرة الآخر لها تحول بينها وبين التقدم، في عندها واقع كتير ثقيل على كاهلها، وكأنها تعيش الأشياء التي بتعيشها بالخفاء والسر. في شرخ كبير بين شو بدها تكون؟! وبين شو بتسمح لنفسها تكون؟! أي الأشياء اللي بتسمح لنفسها تعيشها… بالواجهة شكلنا كتير مودِرن، شكلنا كتير متحضر، بس بالداخل عندنا كتير عقد نفسيّة.”

روابط ذات صلة:

- العدد الخامس والعشرون من صحيفة سودانيز أونلاين، الصفحة الخامسة والسّادسة.

- موقع سي.إن.إن الإخباريّ في حواره مع الصّحافيّة لبنى الحسين.

- الصورة من هذا الموقع.