يقولون إنه “تطلع البت لامها”, فهل ستشبهني صغيرتي حين تكبر؟ هل ستشبه أيامها أيامي؟ هل ستشبه مصرها مصري؟
يوما ما سأحكي لصغيرتي عن الثورة, وعن الميدان, وعن الجيش والإخوان…و عن طنط “مكارم” !
وطنط مكارم هي أم صديقتي, السيدة السبعينية المنهكة نافدة الصبر عالية الصوت و التي ما أن علمت بأمر ثورة يناير حتى ملأ صراخها أذني على الهاتف: “انزلوا التحرير يا سلمى…انزلوا..خدي بنتي وانزلوا…وأنا في سنكم ماكانش حد بيقدر علي”…قالت يومها طنط مكارم أشياء كثيرة عن الفساد وضرورة التغيير وعن أنه “ماحدش بيموت ناقص عمر…حيعملوا فيكو إيه يعني أكتر من كدة…خربوا البلد الله يخرب بيوتهم ” …كانت وقتها طنط مكارم هي الأم الوحيدة في خبرتي التي شجعت بناتها على النزول إلى ميدان التحرير غير عابئة بحكايات البلطجة واحتمالات قصف الميدان بمن فيه وحكايات اللجان الشعبية و السلاح الأبيض والناري والمولوتوف.
كم بدت لي طنط مكارم وقتها جميلة في تهورها استثنائية في ثوريتها التي لم تتناسب مع سنوات عمرها السبعين وجسدها الممتليء شبه المقعد…كانت ببساطة أما ترسل ابنتها, دون تردد, إلى “جبهة” ما لمواجهة سلطان باطش مرابط على عرشه منذ عقود…
لكني ما لبثت أن التقيت في الميدان نساء أخريات شابات ومسنات تحملن في طيات ملابسهن الكلاسيكية المائلة للحشمة ذلك التهور الجميل ذاته الذي نثرته طنط مكارم في روحي آنذاك… تهورا طالما حسبته, لسذاجتي, حكرا على “الناشطات” المتوثبات ممن تلقين تعليمهن في الخارج وأطلقن العنان لشعورهن المموجة كما لو كن ترفضن تصفيفه بطريقة قد تشي بتحفظهن أو هدوء طويتهن!
الآن, وبعد مرور ما يزيد على السنوات الثلاث على ذاك اليوم, أستعيد صوت طنط مكارم في أذني, و أعيد قراءة وجهي ووجوه النساء من حولي فأجد الحال غير الحال…
لم تفقد المرأة المصرية ثوريتها أو انتفاضها, لكن يبدو لي بوضوح الآن كيف أن المرأة المصرية منهكة للغاية وتبحث عن مخارج عملية من أزماتها التي طالت. وليس الإنهاك الذي أعنيه هنا اقتصاديا واجتماعيا فقط, كمثل إنهاك “ذات” في رواية الكاتب والمؤرخ صنع الله ابراهيم, تلك المرأة المصرية البسيطة المأزومة والمصلوبة بين النظامين الناصري بيساريته ومركزية الدولة فيه والساداتي بانفتاح أسواقه وتحرر اقتصادياته, بل إن المرأة المصرية اليوم منهكة كذلك عاطفيا ونفسيا من جراء التغيرات السريعة المتلاحقة وارتفاع وتيرة العنف البدني والجنسي في الشوارع وانتشار أصوات الأعيرة النارية هنا وهناك.
لذا فإنه لم يكن من المستغرب أن تمنح المرأة المصرية صوتها راضية مرضية للمرشح عبد الفتاح السيسي بل وأن تزغرد له وترقص على أنغام “بشرة خير” أمام لجان الانتخاب وقد وعدها الرجل بملامح وجه مزج بين الحسم والحنو بأن يؤمن لها دارها ورغيف خبز على طاولتها.
تحضرني مع هذا الحديث ذكرى زميل دنماركي ذي ميول جنسية مثلية كان قد دار بيني وبينه حوار مطول ذات ليلة دنماركية شتوية مثلجة عن الأنثى المحبوسة في داخل جسده ذكري التشريح…سألته ليلتها بسذاجة طفولية: ماذا تنتظر من حبيبك الأشقر هذا؟ هل تشعر بالأمان في قربه مثلا؟ ضحك زميلي ثم قال: الأمان؟ أما زالت هناك نساء تطلبن من رجالهن الأمان؟! تذكرينني بجدتي…كانت لتقول شيئا من هذا النوع…أما أن تقول شابة لها خلفيتك وتعليمك شيئا كهذا…فهذا غريب ومضحك!”
ربما فاجأت المرأة المصرية المراقبين بانحيازها في الانتخابات الرئاسية للرجل القوى ذي الخلفية العسكرية والذي يطرح الأمن الداخلي والخارجي على رأس أولوياته متجاهلات ما أثير ويثار من مخاوف تتعلق بتقويض الحقوق والحريات حتى إن البعض تغامز مفسرا الأمر بأنه انعكاس لحالة من الحرمان العاطفي تعيشها المرأة المصرية مع الارتفاع المخيف في معدلات العنوسة والطلاق في السنوات الأخيرة, مشبهين ما جرى بالحمى العاطفية الجمعية التي اجتاحت دوائر نساء المنطقة إزاء “مهند” التركي!
لكن الحقيقة ببساطة ودون كلام كبير ولا دخول في جدالات نسوية الألفاظ أن الأمن بمعناه الشامل هو اختيار المرأة المصرية اليوم, وأن السواد الأعظم من مصريات اليوم منهكات وخائفات وقد خرجن لتوهن من معركتين ضاريتين, إحداهما كانت ضد نظام قمعي فاسد استبد بمقدرات وطنهن ورسم لهن خططا قومية تناسب رؤاه وأطماعه حتى كاد أن يسحقهن, والثانية ضد مشروع مشوه كان بصدد تحجيم وجودهن إن لم يكن إقصاءهن تماما من الحياة العامة.
وليس في الأمر على أي حال ما يثير قلق مجالس المرأة والناشطات ولا التقدميين والتقدميات والنسويين والنسويات, فالأمر أشبه باستراحة محارب … فطنط مكارم القابعة في داخل كل مصرية لا تهدأ ثائرتها إلا إلى حين.