انتهيت بالأمس من قراءة (أقنعة بارت) .. اليوم الذي ينتمي إلى فترة يروق لي منح تعريف لها بأنها انتظار لخروج روايتي الجديدة (الفشل في النوم مع السيدة نون) من المطبعة .. ترقب متزامن مع الإعداد للكتاب الأول من سلسلة أنوي كتابتها لتحليل ميكانيزمات اللغة في تقارير ما يسمى بالجرائم التي تم تصنيفها كنتيجة لما أُطلق عليه المرض العقلي، في تاريخ مدينتي الصغيرة، منجم الخراء كما أُسميها الآن .. صدفة كهذه من شأنها أن تستدعي حالة الطقس المفضلة لي بين حدود المسافة التي أتفحص من وراءها وضعية مهنتي في هذه المرحلة
(اشتهر “بارت” بكونه صاحب مقولة “موت المؤلف”. إزاحة هذا الشخص عن المركز الأدبي الذي كان يحتله في الدراسات الأدبية، والتقليد النقدي)
أتذكر في هذه اللحظة ملاحظة عاجلة كتبتها في (الفشل في النوم مع السيدة نون) عن حتمية (النسيان) .. البداهة التي لا علاقة لها بالندم، أو حتى مقاومته بل ربما ـ التفاتاً إلى (بارت) ـ بتأمل اللامتوقع، والاستسلام للذة المباغتة، غير المحكومة، القادمة من الفراغ الذي خلّفته الإزاحة المفهومية
(أنظري يا أمي! ليس ثمة مفاهيم!)
(إن القرائي هو الذي نعرف كيف نقرؤه والذي يمتلك شفافية محددة. أما الكتابي فهو ذاتي الوعي، ومقاوم للقراءة)
في 23 يوليو 2012 نشرت على صفحتي بالفيس بوك غلاف كتاب اللغة الانجليزية للصف الأول الإعدادي .. التعرّف الرسمي الأول لي على (اللغة الأجنبية): (طالبان أنيقان، يرتدي كل منهما قميصاً أبيض .. طالبتان محجبتان، مبتسمتان باطمئنان، وتفاؤل .. جامع .. علم مصر) .. دوّنت تحت الصورة تعليقاً أقرب إلى فك مقتضب لرموز الشفرة الثقافية التي تتضمنها ميثولوجيا الغلاف عن الهوية التي ينبغي لطفل الابتدائي تقمصها أثناء عبوره إلى مرحلة تعليمية تتطلب ترحيبه باللغة الانجليزية .. هذا هو عنوان الكتاب: (مرحباً بالانجليزية)، أما المعنى الأسطوري: لكنك ستظل دائماً، وفي جميع الأحوال مسلماً، مصرياً، وهذا لابد أنه يجعلك مبتسماً باطمئنان، وتفاؤل .. ترتدي ملابس أنيقة، ومهندمة، لأنك تعيش حياة مرتاحة، تدفعك للتحلي بالرغبة في العلم، والطموح للنجاح .. هناك حصيلة مستقبلية مثالية تكفل بضمانتها الطُهر الكامن في بياض قميصك .. سيكون المستقبل تطوراً منطقياً لنقاء حاضرك
(ويستشهد “بارت” في مثال مستمد من عالم السياسة بغلاف مجلة “باريس ماتش” يصوّر جندياً صغيراً أسود البشرة يرتدي البزة العسكرية الفرنسية وهو يؤدي التحية، وعيناه مثبتتان على العلم الوطني، ويعد هذا أول مستوى من مستويات التدليل؛ إن الأشكال والألوان تؤول بوصفها جندياً أسود يرتدي البزة العسكرية الفرنسية. ويكتب “بارت”: “إنني أرى جيداً، بغض النظر عما يمكن أن تتسم به الصورة من سذاجة أو العكس. ما تدل عليه بالنسبة لي؛ إن فرنسا إمبراطورية عظيمة، وأبناؤها جميعاً يخدمون بإخلاص تحت علمها دون اعتبار للون، وليس هناك رد أبلغ على المنتقصين من كولونياليتها المزعومة من الحماسة التي يبديها هذا الجندي الأسود لخدمة مضطهديه المزعومين” .. إن وجود جندي أسود في الجيش الفرنسي، يمنح الصورة سمة طبيعية خاصة أو براءة معينة، ويمكن للمدافعين عنها الادعاء بأنها صورة لجندي أسود ولا شيء أكثر)
(إن فضح عملية التعمية لا يستبعد الأسطورة ولكن، وهو الأمر الذي ينطوي على مفارقة، يمنحها حرية أعظم. لقد كنا في وقت من الأوقات نستطيع أن نحرج الساسة عبر اتهامهم بالعمل على صناعة صور لأنفسهم، ولكن بما أن فضح عملية التعمية أصبح أكثر تواتراً، فقد زال الحرج. والآن يناقش معاونو أحد المرشحين علانية كيف يحاولون تغيير صورة سيدهم)
أعود إلى (الفشل في النوم مع السيدة نون) .. انتظارها، وبالطبع استرجع الآن (مكان جيد لسلحفاة محنطة)، وما ذكره الناقد (عمر شهريار) عنها:
(طرح “ممدوح رزق” دوال عائمة تحاوطها هالة من الغموض فيعطي لكل قاريء فرصته في التأويل، وفي الربط بين الفقرات حيث الاستراتيجية التي يتبعها هي التفكيك، والهدم، وبناء علاقات غير منطقية .. فقرات تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة، ولكن تصل بينها علاقة تفكيكية ساخرة للوجوه، والبشر داخل عالم عبثي لا تحكمه روابط .. تجاوز لأفكار التشيّوء، والأنسنة، والانمساخ الكافكاوي نحو اعتبار العالم مجرد موجودات تهدم مركزية الإنسان)
(يمتدح “بارت” “روب جرييه” لتبنيه كتابة “تكسر فتنة الحكي”. إن الروايات عادة تضم قصصاً؛ أن تقرأ رواية هو أن تتبع تطوراً من نوع ما، وما يثير الدهشة هو أن “بارت” لا يبدي اهتماماً بالقصة. إنه يحب “ديدرو”، و”بريخت” لأن كل منهما يفضل المشهد على القصة، التابلوه الدرامي على التطور الحكائي. إن بارت يفضل الشظايا، ويبتكر طرقاً لتشظية الأعمال التي تضم استمرارية حكائية. إنه يعثر في روايات “روب جرييه” على نصوص تقاوم التنظيم الحكائي. إن من الصعب في الغالب أن تضم أجزاء قصة إلى بعضها، أن تقرر على سبيل المثال ما “يحدث حقيقة”، ماهية الذاكرة، الهلوسة أو تطفلات الراوي)
(إنني أنتظر الشذرة التي سوف تقلقني، وتؤسس المعنى من أجلي)
أفكر في أن (بارت) من الشخصيات التاريخية التي ساهمت بقوة في توطيد الصلة بين الناقد، وبين التعامل مع المنجز النقدي كسيرة ذاتية .. هذيان يستعمل الآخرين لتمجيد اضطرابات ذاكرته
في قصتي القصيرة (دخول المرآة) المنشورة بـ (أخبار الأدب ) في 11 يناير 2014 كتبت: (الأسانيد، والمبررات التي تقف وراء دفاعك عن ضرورة الكسل لا تخصّك، بل أنا الذي خلقتها) .. لماذا لا نقرأ أيضاً من (أقنعة بارت): (كما لو أن بيانه عن الكسل بوصفه مقاومة للسلطة قد قاده إلى اتباع ما تمليه عليه ذاته: “هل تجروء على الكسل!”
الاستراتيجية إذن التي اتبعتها في هذه التدوينة من اليوميات النقدية ـ وبصرف النظر عما ادخرته للكتاب النظري الذي مهد له كتابي (عداء النص) ـ هي ما يمكن وصفه بالتطبيق العملي لما كتبه (رولان بارت) عام 1978:
(إننا ندرك الآن أن النص ليس مجرد خط من الكلمات التي تمنحنا معنى “لاهوتياً” وحيداً “رسالة مؤلف ـ إله” بقدر ما هو فضاء متعدد الأبعاد يمتزج فيه تنوع من الكتابات ليس من بينها كتابة أصلية).