تلبس أمي على عجل جلبابها الأسود، وتغطي رأسها بشال من نفس اللون، تتحجر على خدها دمعة عصية، وهي تهم بلف “البردة” الصعيدية.
أسالها: رايحة فين؟ ترد: رايحة أعزى، فلان… قريبنا مات. أسأل مجددا: يعني إيه مات؟ ترد: يعني “ورقته وقعت”. أطرح السؤال وأنا أكثر حيرة عما كنت، كيف وقعت ورقته ومن أين؟
ترد أمي بإطالة، سقطت ورقته من “شجرة الحياة”، ودون أن تنتظر مني سؤالا جديدا، تفسر، يا وليدي، عندما خلق الله الدنيا، أوجد في السماء شجرة عملاقة، سجل على أوراقها الكثيرة أسماء كل البشر من بدء الخليقة لنهايتها، وأجل كل منهم. كل صباح يأمر ملك الموت، “عزرائيل” بأن يهز الشجرة، لتسقط أوراق من انتهى أجلهم في هذا اليوم.
تخرج أمي، فتنمو في ساحات خيالي الطفولي، ومنها لساحة الدار الفسيحة، شجرة عملاقة، أسجل عليها كل الأسماء، إلا اسمي وأسماء عائلتي والذين أحب، وأصعد الشجرة، أهز الأغصان فأسقط ما أشاء من أوراق.
*************
يوم السوق
إنه يوم الثﻻثاء؛ ثاني أعظم أيام اﻷسبوع؛ بعد يوم الجمعة. يردفني أبي خلفه على الحمار وأنا نصف مغمض العينيين. أتشبث بيدي الصغيرتين بوسطه؛ وأتكئ برأسي المثقل ببقايا نعاس على ظهره. نقطع شوارع البلدة؛ ومن بعدها بقايا المنطقة اﻷثرية القديمة وصوﻻ إلى السوق. ساحة واسعة محاطة من ثﻻثة جوانب بأعمدة معدنية تنتهي بأطراف مدببة؛ وتربطها بالعرض صفائح من نفس المعدن؛ تاركة مسافة صغيرة تكفي بالكاد لمرور شخص نحيل بجانب جسده.
أما الجزء الجنوبي من السوق فمكون من قسمين أحدهما مشيد بالجحر؛ يعلوه سقف محدب مزين بالقرميد اﻷحمر؛ والثاني ساحة مسيجة بأعمدة خشبية عالية؛ وسقف خشبي يعلوه نفس القرميد. يربط أبي؛ الحمار بحبل إلى اﻷعمدة الحديدية؛ ويقيد ساقيه بحبل آخر. يغيب أبي قليﻻ؛ ويأتيني برغيف من الخبز الساخن “المصري” تعلوه حبات من الطعمية. ثم يدخل للسوق؛ يغيب قليﻻ ويعود بحزمة من البرسيم للحمار؛ وربطة من الجزر اﻷحمر “الحلو” لي. ثم يدخل السوق ويغيب عن ناظري وسط الزحام. ألقي للحمار بوريقات الجزر الخضراء؛ وأقضم الجذور على مهل. كنت طفﻻ مطيعا؛ لم أفكر أبدا في اجتياز السور المعدني؛ فالسوق بالنسبة لي مكان مزدحم جدا وللكبار فقط. أفترش اﻻرض في انتظار طويل؛ ﻻ أعرف إن كنت أنا من يحرس الحمار أم العكس؟..
قبل أن تتوسط الشمس السماء؛ يعود أبي ليجدنا كما تركنا آمنيين. رحل أبي؛ ولم أرتاد السوق بعدها إﻻ يافعا للعب الكرة. فقد كانت تلك الساحة المتربة ملعب البلدة الرسمي؛ قبل أن يكون لها بعد سنوات؛ ملعب عشبي؛ تحوطه مصاطب اسمنتية للجمهور؛ وملعبان فرعيان للتدريب؛ ثم ما لبثت أن تركت الجميع؛ السوق والملعب والبلدة؛ في رحلة طويلة مستمرة لﻵن.