تتوسط الساحة مثل كائن خرافي هائل الجحم. محيط جذعها ، ضخم للحد الذي يحتاج لتشابك أذرع عصبة من الرجال، ليحيطوا به من كامل جوانبه. أما في الليل، فكانت تبدو مثل جبل عملاق يبتلع ما دونه من شواهد في المنطقة.
إنها شجرة الكافور العملاقة، التي كانت، وأظنها لا تزال تتوسط ساحة واسعة في منتصف شارعنا، وكان يطلق عليها، “شجرة الجنية”.
تتصدر الشجرة العملاقة واجهة الساحة الواسعة من الجهة الشرقية، وتترك من الشارع المظلم ممرا ضيقا للعابرين . وخلف الشجرة حارة صغيرة ضيقة تضم عددا من البيوت. إلى الجنوب منها منزل وحيد معمور لأبناء أحد العائلات العريقة بالبلدة، يجاوره عدد من الأحواش والحظائر. أما إلى الغرب منها فتقع ساحة واسعة نلعب فيها الكرة. تحد الساحة من جهة الشمال دار ضيافة واسعة، لم تكن تفتح إلا في مناسبات العزاء، ونادرا في المواسم الانتخابية. أما حدها الجنوبي فمبنى مهجور سوره الغربي يطل على الشارع الرئيسي الذي نسكنه، وفي الطرف الشمالي من سور المبنى ، ينتصب “حجر المارد”، وهو كما يبدو من هيئته بقايا عمود فرعوني، معظمه مطمور تحت الأرض، ويطل منه جزء بارتفاع، نحو متر أو أكثر قليلا فوق سطح الأرض.
عمر الشجرة غير معلوم، ولكن تقديرات متضاربة، تقدره بما بين مئتين إلى أربعمئة سنة. ارتفاعها، يتجاوز سبعة طوابق على الأقل، بما يجعلها أعلى من أي بناء آخر في البلد كلها. بعد منطقة الجذع التي يصل طولها لأكثر من خمسة أمتار، تتحول الشجرة لكتلة متشابكة من الفروع والأغصان، الكثيفة صانعة ما يشبه كهفا شديد الظلام، وهو على الأرجح بيت “الجنية”. بعده تنقسم الشجرة لنحو خمسة أفرع كبيرة إضافة لعودها الأصلي
. حكايات كثيرة تحاك حول الجنية التي تستوطن الشجرة، وما تفعله بالبشر، وما قد خطفته منهم للمجهول في أزمنة غابرة. ومع ذلك كانت الشجرة تبدو وديعة نهارا، بما يسمح لنا بلعب الكرة باطمئنان كامل في جوارها، وحتى “حجر المارد”، والمارد نوع جبار من “الجن” لم يكن يشكل لنا أدني خوف نهارا، وكان بعضنا يجلس عليه دون خشية.
ولكن الأمر يتحول لصوره مغايرة بالكامل ليلا ، ويصبح العبور قرب الشجرة مغامرة محفوفة بالخطر. فبعد صلاة العشاء، لا يستحب عبور الشارع فرادى، ومن يفعل فعليه أن يطلق ساقيه للريح
. ولسوء حظنا، كان بيتنا آخر بيوت العائلة من جهة الجنوب بالنسبة للشجرة، والباقي يقع شمالها. ونظرا لاحتياجنا للتزاور أو قضاء بعض الحاجات أو حتى اللعب مع أقاربنا “الشماليين”، كان المرور ليلا أمرا حتميا. كنا نحاول قدر الإمكان ترقب مرور أي شخص كبير لنسير في حمايته، أو نسير في جماعة، حتى لا تستفرد “الجنية” بنا.
وإن كان الحظ عاثرا، ولم يتوافر أي من كل تلك البدائل، فلم يكن هناك مفر. كنا نعبر منطقة الشجرة كرشقة سهم. يأخذ الواحد منا بذيل الجلباب الصعيدي الفضفاض، ويرفعه لأعلى، ليمسك عليه بأسنانه، ويتريث قبل الساحة قليلا، ويأخذا نفسا عميقا، قبل أن يطلق ساقيه للريح، ليبلغ النادي جنوبا، إن كان في الطريق للبيت، أو “السبيل”، مسقى الحمير، شمالا إن كان ذاهبا لأي من الأقارب.
كانت للشجرة أهميتها لأنها تتوسط شارعا يعد شريانا رئيسيا يربط شرقي البلد بغربها. وكان على من يريد أن يتفادى شجر الجنية، في عبوره من الشرق للغرب، أو العكس، أن يسلك طرقا التفافية طويلة ومظلمة. شرق البلد كان به الشارع التجاري الرئيسي، الذي منه يشتري الناس احتياجاتهم اليومية، من غذاء وفواكه حتى الأدوية، حيث كان بالبلد صيدليتان فقط، تقعان في هذا الشارع الشرقي. ولذا فإن القادم من الشرق غالبا ما كان يأتي محملا بأثقال كبيرة من الطعام والفاكهة والحلوى وغيره.
أحد جيران الشجرة، “محمود هوي”، الذي كان في الحارة الواقعة خلفها، أتته فكرة شيطانية للهو والكسب معا. كان محمود بدينا، إلى حد ما، بشرته بيضاء فاتحة جدا مقارنة ببشرة الجنوبين السمراء، وعيناه بلون بني صاف ورائق، ووجهه ينضح براءة، و كان يكبرنا بسنوات. ملامح محمود البريئة والضاحكة، لم تمنعه من الإقدام على واحدة من أكثر التصرفات “شيطانية”. تفتق ذهنه عن فكرة غربية، كان يجلس في الظلام، قرب الشجرة، ويترقب مرور أي عابر يحمل قدرا معتبرا من الأكياس المليئة، ثم يقوم بالتعري كاملا، ويخرج صائحا بأصوات غربية وهو يدور حول الشجرة، فيصاب العابر بالرعب الشديد، فيلقي بما فيه يديه، ويولي الأدبار.
بقى محمود يكرر عملته مرات ومرات، ويكسب مغانم كبيرة، فضلا عن لهوه بإخافة أشخاص كبار، قبل أن يسقط بلسانه ، ويحكي لنا مغامراته الغريبة والمبتكرة، ويروي لنا بالتفصيل، ما حصل عليه كل مرة من غنائم الفارين. كنا نشعر بالدهشة والغيرة معا من محمود لجرأته وإقدامه على تلك التصرفات.
اسقط محمود أسطورة الجنية على أرض الواقع عمليا، وتكسب أيضا من ورائها، ولكنها لم تسقط أبدا في أذهاننا الصغيرة، حتى وإن كانت الشجرة هرمت، وربما قطعت، فالجنية لا تزال كامنة في مكان ما في عقولنا
تعليق واحد على شجرة الجنية
أحسنت وأبدعت أيها المتألق.. نتمنى أن نرى مجموعة القصص القصيرة هذه في كتاب إن شاء الله