لم يكن مُهماً لى أن أعرف إلى أين نتجه، لكن بسهوله كنت أري أننا نتجه نحو ميدان السيدة عائشة، وهو ما جعلني أحاول أن أتذكر أي مطعم باسم الزهور هام ومثير لدرجة أن يدعوني أنور وليلي ليس إلى تناول الغذاء فيه معهما بل وتخصيص نصف يوم كامل للاستمتاع بنزهة جميلة -كان هذا هو التعبير المحبب لدى ليلي- في مطعم الزهور.
أعرف أنور وليلي منذ فترة طويلة لكن علاقتي بهم ظلت متوقفه لفترة على السلام العَابر حينما نلتقي في حفلات لأصدقاء مشتركين. في أحدى هذه الحفلات تبادلت حديث قصير مع أنور حول المزيكا عبرت فيه عن إعجابي بجيري لويس، لكنه اختلف معي مُفضلا جونى كاش عنه أما سام كوك فقد كان رقم واحد بالنسبة إليه حتى أنه دعاني للاستماع إلى بعض أغانية وعبر عن استعداده لمنحى بعض تسجيلاته النادرة لسام كوك.
ذهبت إلى منزله واستمعت إلى سام كوك وشربنا البليز معاً نحن الثلاثة أنور وليلي وبعد أن انتهت الزجاجة انتقلنا إلى ويسكى حتى مكثنا في هزار ونكات مستمتعين بأمسية بديعة انتهت بغناء ليلي لنا وصرنا أصدقاء من بعدها.
ذات ظهيرة بينما كنت واقفاً في شرفة منزلهم بجاردن سيتى أدخن سيجارة بصحبة أنور، دخلت علينا ليلي ترتدى قميص منزلى أبيض خفيف ذو حملات رفيعة تنسدل إحداها كل لحظة عن كتفها، وقفت بجواري مستنده إلى سور الشرفة وقالت وهى تمسح العرق من على جبهتها “أوفف الجو حر جداً” بدا أنور غير منتبهاً وهو يتابع غروب الشمس من أعلى القاهرة، فجاوبت ليلي “كل دا واحنا لسه في يونيو بعد كدا الواحد مش عارف هيعمل ايه في اغسطس” أخرجت تنهيدة قصيرة أخري وقربت كتفها العاري أكثر باتجاه كتفي..
كنت أرتدى قميص بنصف كم لذا فقد شعرت بملمس بشرتها البيضاء رطباً، وبطرف عينى كنت ألمح قلادتها الذهبية تتأرجح بين ثدييها الذى كشف القميص الطويل عن جزء كبير منهما.. وفي لحظة التفتت إلى أنور فخرجت أنفاسها ساخنة في وجهى وهى تقول “أنور احنا لازم نروح مطعم الزهور“، رد أنور دون أن يلتفت “فكرة هايلة.. وأنت كمان لازم تيجى معانا”
تبسمت، وهززت رأسى موفقاً بمعنى ماشى الحال، انصرفت يومها وقد نمت مشغولاً ببياض بشرة ليلي وبروز حلمتيها.
* * *
في سيارة أنور الكاديلاك قطعنا الطريق من جاردن سيتى إلى القصر العينى، عبر أنور بالسيارة ميدان السيدة عائشة وبدا متجهاً إلى القلعة لكن وقبل أن نصل إلى القلعة انحرف يساراً لندخل شارع ضيق وسط المنطقة السكنية المجاورة للقلعة، مشينا في الشارع بصعوبة حيث كان الطريق غير مسفلت وتوقفنا حوالى خمس دقائق لأن أحد الأغبياء أوقف سيارته في منتصف الشارع، لكننا أكملنا الطريق يمين في شمال وشمال في يمين، كنا الآن في قلب مسَاكن القلعة أو هكذا خمنت.. ثم وصلنا إلى ساحة يلعب فيها الأطفال كرة القدم فأوقف أنور سيارته على طرف الساحة بجوار عدد آخر من السيارات الفخمة والتي بدا وجودها في هذه المنطقة غريباً جداً.
نزلنا من السيارة متجهين نحو أحد المنازل الشعبية ذات الأبواب القديمة ووسط السيارات لمحت سيارة جاجور سوداء انخلع لها قلبي، وقفنا أمام الباب فضغط أنور بيمينه على زر الجرس بينما يده اليسري كانت تحمل حقيبة المناشف ولباس السباحة؛ فتح الباب رجل ضخم يرتدى جلباب بلدى بنى اللون ابتسم ما أن رأى أنور وليلي وسلم عليهما بحرارة شديدة، ثم قادنا من الباب في ممر طويل حتى أوصلنا إلى سلالم تمتد إلى الأسفل فنزلنها حتى وصلنا إلى باب أخر يجلس أمامه أحد رجال الأمن غارقاً في عرقه، واضعاً بجواره مروحة ماركة فريش، فتح لنا الباب وهو ينحني ودخلنا.
* * *
شكرت أنور وليلي على النزهة الجميلة وعزومة الغذاء وطلبت أنا وسعيد أبو بكر منهم إنزالنا في ميدان الأوبرا، كان أنور وليلي مرهقين وينويان التوجه إلى منزلهما بينما بالنسبة لى أنا وسعيد كان اليوم لا يزال في بدايته، الساعة لا تزال العاشرة والنصف، مما يعنى أن بار البراندى سوف يفتح أبوابه بعد نصف ساعة.
مشيت أنا وسعيد في ميدان الأوبرا وجلسنا تحت التمثال العظيم للفارس المحارب إبراهيم باشا، أخرج سعيد سجارتين ماركة فاطيمه من جيب معطف بدلته السوداء، أشعلت له السيجارة من ولاعتى، أخذ نفساً وقال لى:
-أنت شفت سامية النهاردا. جاوبته “لا جينا متأخر بعد ما خلصت، بس شفت عربيتها. ” ابتسمت بلا سبب وأنا أضع السيجارة في فمى، ناظراً لحواجبه السوداء الكثيفة وصلعته الخفيفة التى ينعكس عليها ضوء مصابيح الشارع. لم يلحظ ابتسامتى لكنه رد قائلاً “آه الجاجور السوداء دى رهيبة.. بنت الأيه، عارف جبتها من مين” قاطعته “يلا نروح نشرب براندى” لكنه استمر بصوته الحاد “فاكر الراجل اللى كان بيجى دايماً في نايت كلب الخديوى” فقاطعته بحدة أعلى “يلا نروح نشرب براندى يا سعيد، ومش عايز اعرف جابتها من مين.” انخرس سعيد، وقمنا من تحت التمثال متجهين باتجاه بار براندى عبده.
* * *
يتكون مطعم الزهور من قاعة دائرية كبيرة في منتصفها قرص خشبي قدرت أن يشكل البيست أو بلغة أهل العرب ساحة الرقص، وحول القرص الدائري تتراص ما يمكن أن نسميه الطاولات، وهى عبارة عن أحواض سباحة صغيرة تتسع لأربع أفراد، وفي المنتصف طاولة لوضع الطعام.
كنت منبهراً بالشكل، وأنا أشَاهد الجميع يتحركون في المايوهات وأردية السبَاحة، وعملاً بنصيحة سابقة لأنور لم أفهم مغزاها وقتها كنت قد ارتديت أسفل ملابسي المايوه حيث لم أحتج إلا لخلع القميص والبنطال ووضع الشراب في الحذاء في واحدة من خزائن الملابس.
جلست أنا وأنور وجدى وليلي يصل الماء إلى منتصف صدرنا طلبنا بيرة فحضرت البيرة، كان شعوري بالماء البارد محيطاً بجسدى جميلاً جدا خصوصاً في مثل هذه الطقس الذى جئنا منه في الخارج بينما كان المكان مكيف على درجة حرارة مُنخفضة يمكن وصفها باللطيفه؛ في الجو كان تنتشر رائحة بخار خليط من الياسمين وشيء لم أستطيع تحديد ماهيته ربما يكون النعناع. نظرت لزجاجة البيرة باردة تتساقط قطرات الماء من على جانبيها عن يمينى كانت تجلس ليلي وأنور بجوارها وقطرة من الماء تنحدر من على كتفها الأبيض العاري.
* * *
بالصدفة أتى سعيد وشاركنا الطاولة. المشكلة الوحيدة في المكان أنه التدخين ممنوع بداخله. استأذنا أنا وسعيد وذهبنا لشرب سيجارة وبينما كنا نسير في اتجاه الباب.. لمحتها خارجه بكامل بهائها. كانت تلف نفسها في عباءة سوداء تحتها فستان أسود قصير، مع جذمه ذات كعب عالى ورفيع ينغرس سنه الفضي في قلبي مع كل خطوة تخطوها في اتجاه سيارتها الجاجور السوداء.
انحنى لها الحارس وهو يفتح الباب انحناءة خادم فخور بأنه ينحنى لسامية جمال.. انحنى راضياً مبتسماً لبهائها، بهائها الذي نبذنى كمجذب يجب نفيه وحرق روحه. لماذا احرقت روحى يا سامية؟
* * *
شربت أنا وسعيد ما أعتقد أنه كان نصف ليتر من البراندى الرديء وأكلنا كيس شبيسي من الحجم الكبير كاملاً، أما الترمس والفول فلم نستهلك إلا طبقاً واحداً.
كان سعيد كلما رفع حبة ترمس إلى فمه يفتح حنكة ويمد حبة الترمسة بين فلقتى شفتيه ويقشرها.. ولا أجد حرجاً لأقول أنى وجدت المنظر مقززاً خصوصاً في إطار الحالة الشعرية التى كنت أعيشها كشخص محبط شاهد حبيبته القديمة التى هجرته يسكر بالبراندى ويحرق السجائر، لذا فقد تحاشيت أن أطلب طبق ثانى من الترمس، مكتفياً بالسجائر لا أملك غيرها منذ غادرتنى سامية.
* * *
مشيت سكراناً من ميدان الأوبرا حتى شارع 26 يوليو ومنه إلى محطة الإسعاف، وبجوار الكنيسة الإنجلية جلست وبكيت.
3 تعليقات على طيف سامية في مطعم الزهور
رائعة يا ناجي… وبعد سنة وأكثر من قرائتها أول مرة، لم تفقد بريقها على الإطلاق.
هذا المقطع هو الأكثر عبقرية:
إلا وأن معناه الضمني ضاع تمامًا عندما كشفت أنت عن كنهه في جملة قادمة، وشرحته… وأنا شايف إنه المقطع الماضي كان كافي تمامًا.
نقدي لا ينقص شيئًا من قيمة هذا العمل الإبداعي على الإطلاق، بل يزيده ويثبت مدى قوته الأدبية والخيالية.
تحياتي يا فنان!
توبوا الى الله والله والله ستسألون تذكروا (ومايلفظ من قول الإ لديه رقيب)
(إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا)
إيه يا ست السّفيرة… شفتينا بنشرب براندي ولا إيه؟