بدون سبب واضح عجبنى ميدان التحرير ساعة الفطار من كام يوم، انطلقت أجري بلا أى مبرر وبعد مسافة قصيرة توقفت، نظرت حولى، في إحدى زوايا الميدان كان هناك ثلاث بزى أحمر يحمل شعار شركة كوكوكلا يوزعون مياه معدنية وأكياس تمر.

عبرت الطريق وجلست في وسط الميدان وسط الخضرة وما أن ارتفع صوت الآذان حتى أخرجت سيجارة وأشعلتها، وضعت حقيبة ظهري بجواري واستليقت على الحشائش الخضراء، أخذت أدخن وأنا انظر إلى السماء وأفكر في كل البشر الجالسين الآن في منازلهم أو المهرولين إليها.. فكرت أنى مدين لهم بالشكر على اختفائهم من ميدان التحرير وتركهم للشوارع خالية لأجلى.

أخذت أدندن بأغنية صوفية لأحمد عدوية ” البدر ساكن فوق/ وأنا اللى ساكن تحت/ بصيت لفوق بشوق/ خد قلبي وانجرحت/ يا أهل الله ياللى فوق/ ما طل ع اللى تحت/ واللى خلاص اللى فوق مش داري باللى تحت../ طيب حبه فوق/ وحبه تحت/ نظرة فوق/ ونظرة تحت.. ياللى فوق” فكرت في الرقص على الأغنية في وسط الميدان لكن للأسف كان كسلي مسيطرين علي فجلست كما أنا وأخذت أنفخ الدخان.

بلا سبب واضح أيضاً وجدتنى أفكر في عبد الحليم قنديل، لا أعرف لماذا لكن فجأة تجسدت أمامى صلعته ونظراته ذات الإطار السميك، شيء ما في عبد الحليم قنديل يجعلنى أشعر بالتقزز على الدوام، بالأمس مثلاً كنت في منزل أحد أصدقائي أتأمل لوحة لجورج عزمى وكائناته الخنزيريه الكسولة.. غباء شخصيات جورج عزمى يذكرني دائماً بشخصيتين كمال الشاذلي وعبد الحليم القنديل. سرحت في تأملاتى عن الهيئة الخنزيريه لبعض الشخصيات، المشكلة أن الهيئة الخنزيريه لا تعنى أن صاحبها خنزير كما أنها ليست صفة سلبية أو سب وقذف لكنها ببساطة عبارة عن شيء ما في الهيئة الخارجية فقط… ألعاب جينية مع بعض الدهون المتراكمة داخل الجسم.

هنري كيسنجر وإبراهيم عيسي نموذجان آخريين من الهيئة الخنزيريه وإن كان إبراهيم عيسي بشنبه وابتسامته وقامته القصيرة يمكن تصوره هيئة خنزيريه كارتونية مثل الخنازير التى تظهر في أفلام ديزنى لاند، خنازير مبتسمة بيضاء البشرة لبقة وترتدى ملابس فاخرة وحملات حمراء، على العكس فإن هنري كيسنجر يذكرنى بشكل غير مفهوم بخنازير رواية مزرعة الحيوانات لجورج أوريل.

* * *

ياه.. كأنى هواء تسرب على حين غفلة من بين يدى رضوان حارس الجنة وهب في هذه اللحظة على ميدان التحرير ليبارك صيام كل هؤلاء البشر، أبعدت السيجارة وأخذت نفس عميق، رميت السيجارة وتركت رئتى تغتسل، نزعت ورقة حشيشة خضراء ووضعتها في فمى، وضعت قدماً على قدم وأنا نائم وأكملت دندنتى ” شباكه بالستاير/ ومزينة عنابيه”.

لدى صديق في منتصف العشرينات يدرس في كلية التجارة منذ ردحاً من الزمن، ويعمل منذ كان في المرحلة الثانوية لا مؤخذة مزين حريمى، تطور وبرع في مهنته حتى فتح الله عليه وأصبح الآن يعمل في أحد صالونات الحلاقة -لا مؤخذة- في أحد الفنادق الكبري، ومنذ حوالى السنتين بدأ ينزل مع أحد المعلمين الكبار في المهنة كمساعد له في عدد من الأفلام، تحت أصابعه مرت خصلات شعر عدد من الفنانات الشابات من الوجوه الجديدة وعدد آخر من الأميرات الخليجيات. يقول أنه منذ ستة شهور أعجبت بعمله واحده من من ثريات الخليجيات وعرضت عليه أن توفره له عملاً في بلدها بأجر عالى وفي نفس الوقت لكى تزين نفسها تحت يديه لكنه أعتذر بلطف.

حلمه المؤجل الذي يدخر له أن يؤسس صالونه الخاص في أحد المناطق الراقية، وفي المقابل فأنه لا يستطيع السفر للخارج لأنه لا يزال في أخر سنة دراسية ولا يمكنه السفر بسبب أوراق الجيش كما أنه أكبر أخواته وأنتم تعرفون الباقي حول تحملهم لمسئولية أخوته ووالده ذو المرتب الضعيف إلى آخر الأدبيات البائسة لقصص بريد القراء. لكن مع ذلك انتقل منذ منتصف الصيف للعمل في أحد صالونات شرم الشيخ وعند هذه اللحظة مر بعدد من التحولات غير المفهومة فمثلاً أخذنى في أحد الأيام وقال أن معه 250 جنية يريد أن يشتري بها كتب وتوجهنا لعدد من المكتبات لكى أساعده في اختيار العناوين. سألته لماذا تريد أن تشتري كتب؟ فقال أنه بدأ يحب القراءة… هكذا مرة واحدة، عجيب أمركم أيها المصريون.. هع هع هع.

لماذا أحكى كل هذا، لأنه واجهنى بسؤال وجودى محير منذ أسبوع أثناء قدومه للقاهرة في زيارة قصيرة، كنا جالسين في إحدى مقاهى شارع عماد الدين. وفي منتصف حديث عادى عن الأحوال والدنيا وانتظار قدوم صديق ثالث لنا تناول من على الكرسي المجاور له حزمة من الجرائد وفردها على الطاولة. كانت حوالى 6 جرائد ما بين يومية وأسبوعية فتحها أمامى وأخذ يشير إلى عناوين مختلفة… حبس اربع رؤساء تحرير، الرئيس بخير، انقطاع المياه عن خمس قري، مرتضي منصور يهدد أيمن نور، انتخابات في اليابان، حماده هلال يمتنع عن التصوير في رمضان…. ثم نظر إلى وأبعد مبسم الشيشة من على شفتيه وقال لى: أنا مش فاهم حاجة.

كنت أنظر إلى الجرائد التى أراها بشكل يومى بسبب مهنتى، وأحاول أن ابعد عيني عنها مركزاً في المفرش الأزرق الذي يغطى الطاولة أسفل منها حينما رددت عليه “يعنى أيه؟”

-أنا مش فاهم حاجة من الجرايد، ومش فاهم ليه بحوش علشان افتح صالون، ومش عارف إذا كان فيه ربنا ولا لأ، ومش عارف إذا كان مبارك راجل وحش ولا هم اللى كدابين؟

رفعت حواجبي كأبله، وصمت لفترة، ابعدت عيني عن وجهه ونظرت للشارع، في الطرف الأخر كان هناك تاجر يخرج من محله وهو يعدل من وضع زبره بيده من فوق سرواله، فالتفت له وسألته “أخبار الحريم أيه؟”.

* * *

“حكاية قلب حب/ والشوق حاكم عليه/ بنظرة عين يحب/ ولا حد حاسس بيه/ يا أهل ياللى فوق/ ما تطله ع اللى تحت/ ولا خلاص اللى فوق/ مش داري باللى تحت/ طب حبه فوق/ وحبه تحت/ نظرة.. نظرة فوق/ ونظرة تحت… ياللى فوق”

اعتدلت جالساً وعبرت سيارة من الميدان، وقفت على قدمي ووضعت الحقيبة على ظهري عبرت الميدان في اتجاه باب اللوق أغنى أغنية محمد منير وكأنى عصفور متدلع مع تصريف بسيط مستبدلاً العصفور بالفيل ومتذكراً صديق اسكندرانى ضخم كأن هو أول من علمنى الأغنية بتوزيعها ذلك وكأنى فيل متدلع، متولع، وفي قلبه حكايات بتولع….