الأحد المَاضي التَاسعة صبَاحاً أعبر من 26 يوليو إلي العتبةِ. من هنا لا أحفظ أسمَاء الشوَارع لكني أعرف مكَانها. بشكلِ مُنتظم ومنذ أول رمضَان ونحن نُحَافظُ على مَوعدنا الذي يكون غَالباً في صبَاحِ الأحد أو الأربعَاء. من ميدَانِ العتبة تَتفرع الشوارع والدهَاليز حتي أصل إليها “بورصة برج العذراء” مقهى وبَار صغير، بَابه الصفيح نصف مُغلق والنوافذ مَقفوله بالتأكيد، لا أعرف كيف نجا مثل هذا المكان من سيَاقه التَاريخي والمكَاني.

مقهى وبَار مفتوح طوال السنة حتى أثنَاء الشهر الفضيل الذي فيه تُصفد الشيَاطين وتُمنع الخمر من البيع وتُغلق المقَاهي بالنهَارِ، لكن برج العذرَاء يعرف زبَائنه جيداً الذين يحضرون له خصيصاً عَارفين أنه المكَان الوحيد في نهَارِ رمضانِ الذي يَفتح زراعيه وما بينهم من خمر وبوظه وبراندي.

عرفت إستفان منذ حوالي عام في نفس هذا التوقيت، تعرفنا علي بعض من خلال علاقات العمل، ثم بعدها تَوطدت الصدَاقة بيننا، بالطبع قبل ذلك كنتُ أعرفه من خلال التلفزيون والأفلام التي شَارك فيها، حينما كنا نَسكر مع بعضنا البعض كنتُ أمَازحه بتقليدِ طَريقته في نطقِ عبَارات مُعينة كأن أقول له “نشنت يا فالح” فننفجر نحن الاثنين في ضحك متواصل.

في ليلة عيد ميلاد النبي أخذت أنا وهو نبحث عن أي بَار من بارات وسط البلد يقدمُ الخمورَ لكن جميعها كان مُغلق حتى المحلات، انتقلنا لبارات الزمَالك حيث يسكنُ، لكن نفس الأمر كانت تعانى منها، حينها وضع يده علي كتفي وقَال لي:

-خلاص يا هبيبي مفيش أدمنا دلوقتى غير برج العذراء

لم أكن أعرف برج العذراء وقتها ولم يسبق أن سمعت بمكان بهذا الاسم لكن من فوق كوبري 26 يوليو أخذنا تاكسي وذهبنا إلي العتبة ومن العتبة دخلت لأول مرة لبرج العذراء مع إستفان روستى.

* * *

الأحد المَاضي التَاسعة صبَاحاً أعبر من 26 يوليو إلي العتبةِ. البَار غَالباًَ يَعود إلي زمن الخمسينات وله طَابع شعبي مُتَقشف، مسَاحته ضيقة يتكون من مصطبتين وعدد من الحصائر الْمفروشة علي الأرضِ، جلسة الزبَائن أما علي المصطبة أو الحصيرة. هنا لا توجد بيرة. المشروب الرسمي هو البوظة. تقدم في كوز بلاستيك، الكوز الواحد بجنيه، بجوار البوظة هناك للقادرين علي الدفع زجاجات براندي صغيرة ثمن لتر. أما المزه فهناك الفول النَابت والفول الأخضر الحراتي وسميط وجبنة وطماطم وجرجير.

استفان كان يشرب براندي معصور عليه ليمنوتين وأنا كنت أشربه بلا أي إضَافات وفي أحياناً قليلة كنت أشرب البوظة التي كان يرفض أن يشَاركني فيها لأن مَعدته لم تعد تتحمل.

قبل رمضَان بحوالي شهرين، وضعوا فوق البَار تلفاز ضخم، موصل بوصلةِ دش، معظم الوقت مفتوح علي قنوات الأغَاني أو مُبَاريات كرة القدم.

* * *

الأحد المَاضي التَاسعة صباحاً أعبر من 26 يوليو إلي العتبة. أنحنى بقَامتي حتى أدخل من البَابِ، ما أن أدخل حتى أجد استفان ببدلته الرمادية الأنيقة جالساً علي المصطبة في فمة سيجارة وفي يمينه “تمن براندي” بينما جلس عن يساره رجل أخر بدا صديقة وبدا في أوساط الأربعينات. ألقيت السلام فوقف لتحيتي وتقبيلي، ثم مددت يدي لأسلم علي صديقِه الذي بدا مَألوفاً. فقَال وهو يعرفنا ببعضنا البعض ((أحمد شاب يعجبك خالص، لطيف جدا… توفيق الدقن واحد من ولادنا الجمال خالص)) فضلت الجلوس علي الأرض بجوارهم، وطلبت تمن براندي.

تحدثت مع توفيق الدقن عن عمله وعملي، وسببنا نحن الثلاثة في الشهر الفضيل، وتذكر استفان أن الأمور لم تكن تسير بهذه الطريقة في زمنه، وأنه لا يفهم لم تتوقف دور العرض السينمائي عن العمل، وذكره توفيق بأن رمضَان كان موسم فني مثل الصيف وعَلقت أن حديثهم ممل ويشبه حديث العجَائز، طلبنا مزة وأخرجت علبة السجَائر الكيلوبترا، أخذ توفيق واحد ورفض استفان مُفضلاً سيجَارة من علبته الميريت الصفراء. في التلفاز كان هناك أغنية ليسرا ترتدي فيها فستَان أحمر وتغني وهي ترقص ((جت الحرارة/ في قلوب العذاري/ البيض الآمارة دبلوم التجارة/ ألووو../ يا أختي))

امتدح تَوفيق الدقن مُسَلسل حدَائق الشيطَان، وعقب إستفان بأن سُمية الخشبة ((قُنبلة معاليك)) وضم أصَابعه وقبلها وهو يضحك ضحكته الّمُميزة. جميلة هي ملامح إستفان هكذا قلت لنفسي وأنا أتأمل ضَحكته التي شَاركه فيها تَوفيق وهو يَضحكُ مُرجعاً رأسه للخلف. كانت ذقن إستفان نابته بعض الشيء، ومن مكان ما بصيص من الضوء كان ساقطاً عليها لذا فقد بدا بعظامه البارزة وأنفه الحاد مع الذقن النابته كملاك. ((جت الحرارة في الخط المقسم/ الرئة المسمسم تضحك له يتبسم/ يا أختي )) هدأ ضحكنا واستمرت يسرا في الرقص علي كلمات كوثر مصطفي. وعلي ما يبدو فتقريباً كنا قد سكرنا، ((جت الحرارة/ يا بادبادو/ السكر ماله مادوبتوا/ جت الحرارة/ يا بادبادو/ غسلي قلبي بالشامبو)) ومع الموسيقي والإيقاع وصوت يسرا أخذ توفيق يخبط بكف يديه علي فخذه وهو يهز رأسه، بينما استفان يهز رأسه للأمام وجسمه يرقص في إيقاع متزن بالطبع… ما الذى يمكن توقعه من رقص وايقاع جسد زير نساء سابق وراقص تربية ملاهي النمسا وإيطاليا ((وآه.. من أيه؟/ سبلي ابن الأيه/ أنا بنت عادية/ أنا مش مادية/ ناداني وهعمل أيه..)) أوووه وقف استفان علي قدميه وأخذ يرقص علي النغم بايقاع ساحر يحرق قدمية بتناسق مع زراعيه مع حركة وسطه والجميع ينظر له ويبتسم ((جت الحرارة… )) وقف الجميع وقد أخذ يرقص معه مساطيل من البوظة يهتزون في ايقاع شعبية مصرية بينما هو يحافظ علي ايقاع لحن الأغنية الأوربية بجسده، تبسمت أنا وتوفيق لبعضنا البعض ونحن ننفس دخان سجائرنا ونشاهده. وحين انتهت الأغنية صفقنا نحن الاثنين معاً بينما هتف توفيق ((حلاوتك ياآه يا آه))

قبل اكتشَاف برجَ العذراءِ كنت مَفتون بشكلِ لا يصدق بدخولِ المقَاهي التي تَفتحُ في رمضَانِ، حيث النوَافذ مُغَلقة والأبوَاب نصف مَفتُوحة والنَاس سَارحة مُتألقة وسحَابة من الدخَانِ يَسترخي عليها آله الكسل الأعظم. لكن في حَالةِ البَارات التي لا أعرف منها سوي بُرج العذرَاء فالسحر مُضَاعف عَشرة مرات، أنا هنا أسبح في برجِ العذرَاءِ في رخَاءِ الكسل خَارج الزمن مُسترخياً علي سحَابةِ الدخَان والبراندي بصحبة تَوفيق الدقن واستفان روستي