في البداية أود أن أشرح لحضراتكم نبذة مختصرة عن مشوار الحركات و الأحزاب الليبرالية منذ قيام ثورة 25 يناير 2011م حتى 30 يونيو 2013م، لنستطيع الوقوف على التطورات التي شكلت الوعي السياسي الليبرالي بمرور الأحداث و الزمن و التي أدت بالتالي إلى التأثير على تطور الحياة الحزبية الليبرالية، و للتعرف أيضاً على الإشكاليات التي تواجهنا في تغيير الفكر المجتمعي و خصوصاً في صعيد مصر.
كان إستفتاء 19 مارس 2011م هو نقطة البداية، حيث يعد هذا الإستفتاء هو أول إختبار حقيقي ليس فقط لقدرة و حجم تأثير التيار الليبرالي و لكن جميع التيارات الأخرى في الشارع السياسي، و أيضاً بداية تقسيم المعسكرات السياسية على الجانبين، فالليبراليون رفضوا التعديلات الدستورية التي إقترحها المجلس العسكري تمهيداً للدخول في فترة تحول ديموقراطي بعد إسقاط مبارك و نظامه و قدموا خطاباً نخبوياً و إعتمدوا حتى في دعايتهم بنسبة كبيرة على القنوات التلفزيونية التي تستهدف شريحة مجتمعية مثقفة لا تمثل أكثر من 5% من الكتلة التصويتية، متجاهلة بذلك غالبية الطبقات المجتمعية الأخرى، في حين أن جماعة الإخوان المسلمين إختارت الموافقة على التعديلات المطروحة، فقدمت خطاباً سهلاً و مبسطاً ملخصاً في أربعة نقاط على الأكثر بجانب إقامة عدة مؤتمرات مستغلة بذلك جوانب القوة في التنظيم مع الإعتماد على الشخصيات المجتمعية المؤثرة، أما باقي التيارات الإسلامية الراديكالية فقد قدمت خطاباً طائفياً إستطاع أن يتغلغل داخل الأوساط المجتمعية الأقل ثقافة و الأكثر فقراً و يحصل على الصدى المطلوب لدى الكثيرين، كل تلك الأسباب و أكثر جعلت النتيجة تصب في صالح إقرار التعديلات الدستورية بنسبة 77% لصالح الإسلاميين و 23% لصالح الليبراليين.
تقبَّل الليبراليون الهزيمة على الرغم من طرحهم سيناريوهات مستقبلية واقعية إلى حد ما في حال إقرار تلك التعديلات و توجهوا إلى حشد الشارع ضد المؤسسة العسكرية في تظاهرات 27 مايو 2011م و ما تبعها من إعتصامات و إحتجاجات ضد السياسات القمعية للعسكر آنذاك، فكان آدائهم إلى حد ما على المستوى السياسي جيد جداً، لكنهم لم يحاولوا حتى إنشاء أو إعادة هيكلة أية تنظيمات داخلية في الأحزاب لتستطيع إقتحام و إحداث تغييرات في أفكار و توجهات المجتمع المصري و ظل يعتمد على الفئة الثورية فقط، أيضاً لم يبد الليبراليون أية إهتمامات أو إستعدادات للإنتخابات البرلمانية التي كانت على الأبواب، فكانت الهزيمة التالية له برغم خوض الأحزاب تلك الإنتخابات بقوائم موحدة تحت ما يمسى “بالكتلة المصرية”، في حين أن أحزاباً ليبراليةً أخرى كحزب الوفد و الجبهة الديموقراطية فضلت أن تخوضها منفردة، ..
لم يتعلم التيار الليبرالي من أخطاءه في الإستفتاء الماضي و أصرعلى تقديمه نفس الخطاب النخبوي البعيد عن فهم الناخب، و فشلت تنظيماته و حملاته الإنتخابية في معرفة حقيقة المجتمع المصري من ناحية، و طرحها لأسماء غير معروفة في كثير من محافظات الصعيد على سبيل المثال من ناحية أخرى، إلى جانب الدعاية المضادة من التيارات الإسلامية التي لعبت على الوتر الطائفي مستفيدة من إنتشار الجهل و فقر التعليم في المجتمع لتخرج منتصرة في المرحلة الأولى بنسبة عالية جداً تجاوزت نسبة 70%، الأمر الذي أرغم الأحزاب الليبرالية على أن تجتمع للمرة الأولى و بعد إدراكها أنها تحتاج فعلياً لترتيب صفوفها و قوائمها في الدوائر الإنتخابية لخوض المرحلة الثانية، أغلب تلك الأسباب أدت إلى فشلهم في إقتناص غالبية مرضية داخل البرلمان.
خاض الليبراليون الإنتخابات الرئاسية 2012م، بمُرشَّحَيْن لم تدعمهما الأحزاب الليبرالية بل لم يكن هناك أي موقف سياسي على الصعيد الحزبي يذكر إلاَّ تأييد حزب الوفد لعمرو موسى في الجولة الأولى و بعض القيادات السياسية الليبرالية بشكل شخصي بعيداً عن توجهات أحزابهم، و تركت باقي الأحزاب لأعضائها حرية الإختيار، حتى بعد نجاح الفريق أحمد شفيق للجولة النهائية أمام محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين، فبالرغم من إعلان الأول أنه يدعم الدولة العلمانية و دعوته للتيار المدني للحوار و الإطلاع على مطالبه في محاولة منه للحصول على دعمهم، و ضمانته للحريات الدينية و السياسية في مجمل خطاباته الأخيرة قبل إنطلاق عملية التصويت إلاَّ أن تلك الأحزاب لم تدعم أيَّا من المُرشَّحَيْن بل إن حزب المصريين الأحرار وجه خطاباً لقواعده أنهم إذا قرروا التوجه لصندوق الإنتخابات فعليهم إختيار مرشح مدني! ، و كان فوز مرشح الإخوان أولى الخطوات نحو تأسيس دولة إسلامية فاشية في ظل تخاذل الليبراليين و عدم إتفاقهم على مرشح بعينه.
في ظل توحد التيار الإسلامي و تحالفه السياسي داخل قبة البرلمان و خارجه، إتسم أداء الليبراليون في فترة حكم محمد مرسي و سيطرة جماعة الإخوان المسلمين على الساحة السياسية بالضعف و التشرذم فبالرغم من وصول الساحة الحزبية لأكثر من 66 حزباً أغلبها تحمل شعارات ليبرالية، إلاَّ أنها لم تقدم أية أطروحات جديدة بل كان أدائها في الوصول إلى الشارع المصري ضعيف و غير مؤثر بالمرة، و أغلبها أحزاب قامت بناءً على المصالح الشخصية لذلك لم يستطع أياً منها أن تحرز أي تقدم سواء على المستوى التنظيمي أو حتى جرت أية محاولات لإعادة بلورة للفكر الأيدلوجي بما يتناسب مع عقلية المواطن المصري، و عندما تَطَّلِع على برامج تلك الأحزاب التي لا يتعدي طرحها ال 10 ورقات على الأكثر و بعضها في ورقة واحدة ستجد أنها تمحورت حول الشعارات الشعبوية المطالبة بالعيش و الحرية والكرامة الإنسانية و المساواة فقط بدون طرح أية آليات واقعية لتنفيذها.
بدأ الليبراليون يستشعرون الخطر و خصوصاً بعد الإعلان الدستوري الذي أطلقه مرسي في نوفمبر 2012م و الذي بموجبه حول نفسه إلى ديكتاتور مُحَصَّن القرار، فقرروا ترتيب صفوفهم داخل كيان واحد يسمى ”جبهة الإنقاذ”، عقب الدعوة التي أطلقها عمرو موسى مباشرة بعد الإعلان بمقر حزب الوفد في محاولة منه للململة شتات التيار المدني بكافة توجهاته الأيدلوجية للوقوف ضد هذا النظام الفاشي، لكن الليبراليين قد أخطأوا من وجهة نظري في التحالف مع اليسار و الناصريين الذين كانوا قد تحالفوا من قبل مع جماعة الإخوان المسلمين إنتخابياً في البرلمان و ساهموا بشكل كبير في ترديد دعاياتهم لتمرير حكم مرسي، هم أيضاً حاولوا أكثر من مرة تفكيكها، لكن تلك الجبهة نجحت عن طريق إعتمادها على شخصيات عامة مؤثرة بشكل كبير على الساحة في توحيد مواقف أحزابها السياسية و بدأت إستراتيجية الليبراليين تتغير من حيث الإهتمام بالتحول إلى الشارع تدريجياً و لكن على نطاقٍ ضيقٍ و إستغلال الجرائد و القنوات التلفزيونية في التأثير على الرأي العام و إستمالته ضد نظام مرسي.
أما على صعيد الحياة الحزبية فقد خرجت أول تجربة إندماج تجمع مابين الأحزاب ذات الفكر الأيدلوجي الواحد في محاولة لتقليص الساحة التي تجاوزت عدد أحزابها 66 حزباً داخل حزب واحد بقيادة عمرو موسى “حزب المؤتمر” و إنطلقت بعد تلك التجربة عدداً من المشاورات التي جمعت أحزاباً و حركات أخرى للإتفاق على 3 أحزاب تمثل توجهات أيدلوجية مختلفة.
كان الإستفتاء على دستور مصر الذي وضعه الإخوان بمثابة ” الهزيمة و النصر” في آنٍ واحد حيث أدار التيار الليبرالي معركته داخل أروقة التأسيسية في محاولات مضنية لإيقاف المد الإسلامي أمام مواد الحريات العامة، و خارجها في الشارع حيث دشنوا الحملات لرفض الدستور، و في النهاية إنسحب ممثلوا التيار الليبرالي من اللجنة بعد أن أيقنوا تماماً أنها تدار فقط لصالح فئة سياسية معينه دون النظر لمقترحات الآخرين، داعيين إلى الخروج و رفض الإستفتاء في وقتٍ متأخر بعد أن كانوا متفقين تماماً على مقاطعة التصويت من حيث المبدأ، و تم تمرير الدستور بأغلبية بسيطة حيث كان إجمالي الأصوات أقل من ثلث من لهم حق التصويت مع زيادة نسبة الرافضين بمعدل ما يقارب من 2 مليون شخص عن إستفتاء 19 مارس 2011م، مما جعل من جبهة الإنقاذ بشكل ما مؤثرة في توجيه الشارع السياسي و إستطاعت أن تحظى بدعم شعبي من الساخطين على نظام الإخوان.
بعد ذلك أصدرت الجبهة قرارها بمقاطعة خوض الإنتخابات البرلمانية و التي كان من المُزمع عقدها بعد 60 يوماً من إقرار الدستور الجديد، فبرغم ميل بعض الأحزاب الليبرالية بخوضها و التجهيز لذلك برغم إجماع القرار، لكن ظل التمسك بالمقاطعة حتى إندلعت إحتجاجات 30 يونيو 2013م، فكانت الأسباب التي إستندت و طالبت بها للعدول عن هذا القرار ضرورة وجود إشراف دولي و قضائي كامل على اللجان الإنتخابية و خصوصاً بعد التزوير الذي حدث في لجان الإستفتاء على الدستور السابق، تأجيل الإنتخابات لعدم قدرة الدولة على تحمل ميزانيتها و خصوصاً بعد دخولها في منحدر الإنهيار الإقتصادي، حالة عدم الإستقرار العامة بعد الإحتجاجات المتفرقة التي إندلعت رفضاً للدستور، برغم دعوة البعض لطرح تعديلات مقترحة لم يتم الأخذ بها لتهدئة الرأي العام.
جاءت الدعوة لإحتجاجات يونيو 2013م التي أطلقتها حركة تمرد و التي حظيت بالدعم الكامل من أحزاب جبهة الإنقاذ التي عملت أماناتها و قواعدها بشكل حقيقي في الشارع لسحب الثقة من الرئيس الإخواني و التعجيل بإنتخابات رئاسية مبكرة، لأسباب عديدة منها فشل الجماعة في إدارة الحكم و إستمرار الأزمات مع الإنهيار الإقتصادي لمصر، إقصاء كافة الكوادر و الكفاءات السياسية من دائرة إتخاذ القرار السياسي و إعتماد الإخوان على أهل الثقة و تسكينهم في المناصب القيادية بمؤسسات الدولة، كلها أدت إلى تلبية قطاع شعبي كبير لدعوة التظاهر، التي أفضت أخيراً إلى إسقاط نظام الإخوان بعد تدخل المؤسسة العسكرية و صدور بيان وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي و تشكيل حكومة مدنية برئاسة الدكتور حازم الببلاوي و تعيين رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور رئيساً مؤقتاً للبلاد.
من وجهة نظري أنه بعد إسقاط نظام الإخوان كان التحالف المطلق مع المؤسسة العسكرية من جانب التيار الليبرالي سقطة تضاف إلى سجلهم الممتلئ حتى الآن، فأصبحت النخبة السياسية و الأحزاب الليبرالية تدور حول فلك المؤسسة العسكرية، مع إستمرار التلميحات و التصريحات بدعم رجل عسكري لخوض الإنتخابات الرئاسية بدلاً من العمل على تنظيم أحزابهم من الداخل، و خلق بديل مدني ليبرالي علماني و الترويج له للحصول على دعم شعبي للخروج من دائرة الحكم الديني أم الحكم العسكري.
نظرة على إشكاليات الليبرالية في صعيد مصر:
الحراك الليبرالي في محافظات الصعيد يعاني بشكل كبير من مركزية التشكيل و إتخاذ القرار في الأحزاب، و لا يجد الدعم المالي الكافي، و لا الدعم السياسي لنشر مبادئ الليبرالية وسط مجتمع تقليدي لا يؤمن بتقبل الأفكار الجديدة .. فكل تحركات الشباب الليبرالي تعتمد كلياً على المجهودات الفردية و بالتالي ينحصر عملهم داخل المدن بدلاً من التوسع و الوصول إلى القرى و المراكز التي تُعد معسكرات التيارات الإسلامية.
إن سيطرة الدولة على الآلة الإعلامية من ناحية، و التيارات الإسلامية على منابر المساجد من ناحية أخرى أدى إلى عدم ظهور إعلام بديل مستقل يستطيع نقل أفكار مغايرة للمجتمعات هناك، مما جعل الكثير من أهالي الصعيد يتجه إلى تلقي معلوماتهم المشوهة عن الليبرالية و العلمانية من المشايخ سواء عن طريق المنبر أو القنوات الدينية و بالتالي إلى تكوين مفاهيم مغلوطة تعيق أي تقدم لأي حراك ليبرالي يحدث.
تُعد التيارات الإسلامية بكافة توجهاتها هي الأكثر توغلاً في المناطق الريفية لإعتمادها على الخطابات الطائفية مع إعتمادهم على الخلط المتعمد بين الدين و السياسة لإستقطاب الجمهور و الناخبين، و ضعف التيار الليبرالي الذي يكتفي بالعمل فقط في المدن الرئيسية و بتنظيمات مفككة أيضاً بلا خطابات تناسب المجتمع.
بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين و إنهيار التيار الإسلامي بشكل كير و خصوصاً بعد ثورة 30 يونيو 2013م كان من الممكن أن يستفيد التيار الليبرالي من تلك الكتلة التي خرجت لإسقاط النظام و التي تعدت 30 مليون فرد، لكنها عوضاً عن ذلك فضلت أن لا تفعل شيئاً مما جعل تلك الكتلة في غياب البديل المدني تتجه إلى دعم المؤسسة العسكرية!
3 تعليقات على تطورات الوعي السياسي الليبرالي و إشكاليات تغيير الصعيد في مصر
أشكرك بشدة على هذا الجهد الواضح والتحليل المفصل يا عزيزى، وأتفق معك أن الحركات الليبرالية سجلت موقفا متخازلا فيما بعد 30 يونيو لا يحمل إلا تعليقات وتنديدات وموافقات واعتراضات، موقفا خاليًا تماما من التواجد المدنى على أرض الشارع بين الناس، ومع ذلك يتمتعون الآن بنعيم تلك الحرية التى جلبها الشعب بل ومنهم من ينسبها إلى نفسه… تحياتى
شكراً سلمى،
ستظل الأحزاب الليبرالية تدور في فراغ طالما لا تلمس الواقع المجتمعي في مصر، أو حتى تحاول أن تطور من أدائها لتحل محل الحكم العسكري أو الديني و تطرح نفسها كبديل قوي.
Mountain bikes can be fouhnd in tandem configurations.