على الرغم من سعي الإخوان المسلمين لتقديم أنفسهم بصورة جديدة تتفق مع معايير العصر الحديث، كإعلان إيمانهم بالديموقراطية والدولة المدنية ، وتأكيد تخليهم عن السمات الفاشية التي لازمت الجماعة منذ نشأتها كالنظام الخاص وفرق الإغتيالات .. إلخ ، إلا أنهم لا يزالوا يصرون على اعتبار حسن البنا رمزا للجماعة ، ويحيطونه بهالات التقديس والولاء ، رغم أن البنا يمثل كل ما يتناقض مع هذه التوجهات الجديدة ، مما يلقي بظلال قوية من الشك حول مصداقية هذه “النيو لوك” ، وما إذا كانت ستارا يخفي وراءه ما يثير القلق ويجعل الفئران تلعب في صدور الناس.

فتاريخ البنا هو في الحقيقة عبء على الجماعة ، وليس فيه ما يعتبر رصيدا لها ، وهذا ليس طعنا شخصيا في الرجل ، فهو الآن في ذمة الله ، ولكنه حكم يستند إلى حقائق تاريخية ، ووقائع مادية ، حتى الإخوان أنفسهم لا يجادلون فيها.

وسنحاول هنا في عجالة أن نذكر بالمحاور الرئيسية في مسيرة البنا السياسية ، لعل الذكرى تنفع المؤمنين وتدفع شباب الإخوان إلى إعادة النظر في اتجاهات الجماعة ورمزها.

فمنذ اليوم الأول لتأسيس الجماعة وصمها البنا بوصمة عار لا يمكن أن تمحى من الذاكرة الوطنية للشعب المصري ، فلقد اختار، وبكامل إرادته، أن ينحاز إلى القصر في مواجهة سائر القوى الوطنية وعلى رأسها حزب الوفد، وطبعا الإنحياز إلى القصر معناه الإنحياز أوتوماتيكيا إلى حلفاء القصر وهم الإنجليز وأحزاب الأقلية. وكان منطق البنا في هذا تتجلى فيه كافة آيات الإنتهازية والنفعية وقصر النظر ، فكان يقول لأتباعه وكأنه يضع نظرية سياسية فذة ، إن الوفد يأتي ويذهب ، ولكن القصر باق.

وكان شرط التحالف هو العداء السافر للوفد وكل توجهاته المعادية للقصر والإنجليز مقابل ما يقدم للبنا من دعم وحماية من البوليس السياسي وإعانات حكومية وتسهيلات في إنشاء الفروع وإصدار الصحف والحصول على ورق الطباعة بالسعر الحكومي ، وغيرها الكثير مما اعترف به البنا صراحة ودون خجل بل على العكس بفخر شديد في مذكراته الخاصة “الدعوة والداعية”. والحق يقال أن البنا قد قام بأداء المطلوب منه بامتياز ، واستطاع تسديد الطعنة تلو الأخرى لأهداف الحركة الوطنية ، كما عرف أيضا كيف يحصل على مستحقاته كاملة من أطراف التحالف.

وقد كان يمكن أن يشفع للبنا في هذا السلوك اللأخلاقي واللاوطني صغر سنه وقلة ثقافته وثقافة أتباعه عند تأسيس الجماعة ، ذلك أنه يوم أسسها كان مجرد مدرس إلزامي للغة العربية في الثانية والعشرين من عمره ، وكان الستة المؤسسين الآخرين مجرد عمال بسطاء ( نجار ، وحلاق ، ومكوجي ، وسائق ، وجنايني ، وعجلاتي) لا نصيب لهم من ثقافة أو فكر أو علم ، هذا بافتراض أن الشعور الوطني والعداء للإحتلال ، يتوقف على عمر الإنسان وثقافته ، إلا أن هذه التوجهات قد صاحبت البنا طيلة حياته وإلى يوم اغتياله ،  مما يدل على أنها كانت مبادئ أصيلة في نفس الرجل ، أو لنقل داء عضال أورده موارد التهلكة.

والمثير للضحك ، ويؤكد مبادئ الإنتهازية والنفعية والتلون ، أنه عندما أجبر الإنجليز الملك على  تسليم السلطة للوفد في عام 1942 ، كانت هذه هي الفترة الوحيدة التي هادن فيها الإخوان الوفد وتوقفوا عن مهاجمته ، وعندما ذهب الوفد عام 1944 وتوالت حكومات القصر ، عادت ريما لعادتها القديمة ، وعاد الإخوان للهجوم الشرس على الوفد ، مما أثار اعترض بعض الإخوان أنفسهم مثل أحمد السكري فكان جزاءهم الطرد من الجماعة.

ولعل أقرب مثل يدل على الرضى السامي الذي كان البنا يتمتع به من الإنجليز وحكومات القصر ، وهو الأمر الذي يخجل الإخوان من مجرد مناقشته ، هو إستثناء الإخوان من قرار إلغاء جميع التشكيلات شبه العسكرية الذي أصدرته وزارة محمد محمود قبل الحرب بإيعاز من الإنجليز.

كما لم يكن البنا يخفي اتجاهاته الفاشية المعادية للحرية والديموقراطية ، بل كان للأسف يغلفها للبسطاء من أتباعه بغلاف ديني ، ومن ثم فقد كان إلغاء الأحزاب والحياة النيابية على رأس المطالب الخمسون التي رفعها للملوك والرؤساء العرب. هذا فضلا عن إنشاء النظام الخاص ، وفرق الإغتيالات ، وما تم ارتكابه من جرائم ، وجدها البنا عادية وغير مشينة ، بدليل قوله بعد اغتيال القاضي الخازندار “أسرة الخازندار ليس لها شيء عند الإخوان غير الديّة”.

وأخيرا قد يسأل سائل: هل كان البنا عميلا للقصر والإنجليز ؟ أقول لا. ولكنها مجرد نصاحة الفلاح البسيط التي قادته إلى حتفه. فلقد كان كل هم البنا هو نشر الدعوة وافتتاح فرع لها في كل مدينة و قرية ، وكان يعلم أن أيا من الإنجليز والقصر يستطيع إيقاف هذا الحلم وتحطيمه بجرّة قلم ، كما كانوا يفعلون مع مصر الفتاة والشيوعيين وسائر القوى الوطنية الأخرى ، فتصور أن بإمكانه الضحك على الأعداء واللعب معهم والحصول على دعمهم وأموالهم دون التفريط في شيء من الشرف أو المبادئ ودون إراقة ماء الوجه ، طبعا حتى تحين ساعة الزحف المقدس ، وهذا بالطبع كان قمة السذاجة ، فقد سقط البنا في بئر العمالة ، وأصبحت الجماعة مجرد أداة في يد القصر والإنجليز. ووصل الأمر بالبنا في عدم قدرته على مخالفة أوامر الإنجليز وتعليماتهم إلى أن يركب بنفسه سيارة حكمدار العاصمة المكشوفة ويدور بها في الشوارع لتهدئة المظاهرات التي انفجرت ضد معاهدة صدقي بيفن شارحا للمتظاهرين فوائد هذه المعاهدة ، التي اعتبرها الشعب خيانة عظمى ، وكانت فضيحة نشرت صحف الوفد صورها وأدت إلى إحتجاجات وانشقاقات أخرى في الجماعة.

واستمر البنا في نشر دعوته وتقديم خدماته لأرباب النعم إلى أن قرروا التخلص منه بقتله ، لأنه تجاوز بالنظام الخاص وبما يجمعه من سلاح قدر القوة التي يمكن أن يسمح بها المتبوع للتابع ، فمات وحيدا لا يجد من يستجير به أو من يشفع له ، أو حتى من يجيب على اتصالاته الهاتفية.

فبأي معنى من المعاني يمكن أن يكون حسن البنا رمزا تفتخر به أي جماعة سياسية تطالب بالحرية وتنادي بالديموقراطية ، فهو وإن كان قد أسس الجماعة ، وكان دون شك واعظا وخطيبا من الطراز الأول ، إلا أنه قد أساء لها إساءات بالغة ، وكان معاديا صريحا لكل ما تنادي به الآن ، ووصم الجماعة بما لا يمكن أن تمحوه هذه “النيو لوك” التي يظهر بها  قادتها الجدد.

ونحن نعلم أن جيل القادة الشباب من الإخوان كالعريان وأبو الفتوح وغيرهم ، يفهمون ما نقول جيدا ، ولكنهم حتى الآن لا يملكون الكثير من الأمر، فمازال الحرس القديم من أعضاء النظام الخاص ، الذين بايعوا البنا على المصحف والمسدس ، يمسكون بمقاليد الأمور في الجماعة ، ويسيرون بها في نفس الطريق.

نرجو أن نكون قد نصحنا ، والله الموفق.

إسماعيل حسني