من سخونة أسوان صيفا إلى صقيع سيبيريا. هكذا يمكن إيجاز تحولات العلاقة المصرية الروسية منذ أكثر من نصف قرن، حتى شهور مضت. علاقة بلغت ذروتها قوة، حتى بدت بصلابة حجر الجرانيت المصري الأحمر، في سنوات بناء السد العالي. وترسخت حتى بدت بثبات قواعد حائط الصواريخ على الضفة الغربية للقناة في سنوات ما قبل حرب أكتوبر 1973. وبينهما انصهرت في أفران مصانع الحديد والصلب في أسوان.
تلك هي الملامح الأبرز في العلاقات المصرية الروسية، خلال فترة الصعود التي بدأت بصفقة الأسلحة التشيكية عام 1954، ودخلت مرحلة التجميد بقرار الرئيس المصري الراحل أنور السادات طرد الخبراء السوفيت في يوليو عام 1972. شارك الروس خلال تلك السنوات مصر في مسيرة طموحة للتنمية ببناء مئات المصانع، والمشروعات الزراعية. وكانوا موردا رئيسيا لتسليح وبناء الجيش المصري، في محاولته لإيجاد توازن عسكري مع إسرائيل. في المقابل منحت مصر للروس منفذا واسعا على المياه الدافئة في المتوسط، ومدخلا سهلا لأفريقيا الثائرة وقتئذ، ومركزا في قلب العالم العربي، تمدد منه الروس إلي سوريا شرقا والجزائر غربا. قرار السادات بطرد الخبراء الروس، كان بداية سحب البساط من مصر، ومن بعدها الشرق الأوسط بالكامل تقريبا. وانهى السادات تقريبا تلك العلاقات الدافئة، بتحوله الاستراتيجي الكامل بعد حرب أكتوبر للغرب ، وهو التحول الذي اختصره وقتئذ في مقولته الشهيرة بأن 99 بالمئة من اللعبة في يد الولايات المتحدة.
ذهب السادات ومعه مصر إلي حيث أراد، الى الغرب، في تحول استراتيجي قاد لتوقيع معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، وربط مصر بتحالف عسكري واقتصادي وسياسي مع الولايات المتحدة استمر لعقود. لم تشهد سنوات مبارك الثلاثين في الحكم تغيرا يذكر في تلك العلاقة، عدا زيارة لبوتن للقاهرة في 2005، وردها مبارك بزيارة في العام التالي شهدت توقيع عدد من الاتفاقيات.
لم تحدث ثورة يناير 2011 بدورها تغييرا في المعادلة، بل أوحت السنة التي قضاها الإخوان المسلمين في الحكم بتوجه نحو مزيد من تعزيز العلاقات مع واشنطن، باعتبارها في نظرهم ضمان الاستمرار للبقاء في الحكم. التوجه الأميركي، إزاء التغيير في مصر بعد زوال نظام الإخوان، وقرراها بتعليق المساعدات العسكرية وجزء من المساعدات الاقتصادية لمصر، حرك جزءا من الجمود الطويل في العلاقة بين القاهرة وموسكو. زيارات متبادلة على أرفع المستويات، وحديث عن صفقات تسليح، وتعاون اقتصادي، حكمته ظروف البلدين.
فمصر، لا تريد حصر علاقاتها في قطب أوحد يحدد مساراتها في مرحلة التحول، وروسيا تبحث عن استعادة نفوذها السابق، بعد خسارتها للعراق منذ سنوات بعد سقوط نظام صدام حسين، وتلاه خسارة ليبيا بسقوط حكم القذافي، وتناضل الآن بكل قوتها السياسية والعسكرية للإبقاء على حليفها الوحيد في المنطقة، نظام بشار الأسد. وفقا لما تناثر من معلومات، فأن روسيا مستعدة لتزويد مصر باحتياجاتها من مشتريات السلاح، والحديث المبدئي يدور حول صفقة بأربعة مليارات دولار.
مصر تحتاج السلاح، ودعم اقتصادي، وربما تعاون في التصنيع العسكري، وعين روسيا على “تسهيلات بحرية” وتعاون أمني، خاصة في مكافحة الجماعات الأصولية المتشددة. مطالب متبادلة، تجعل احتمالات النمو في هذه العلاقة وواردة وقوية، ولكن الذهاب الى حد تحالف الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، يبدو بعيدا وغير وراد. فلا روسيا هي الاتحاد السوفيتي السابق، ولا مصر هي مصر عبدالناصر، ولا العالم في مرحلة الحرب الباردة. روسيا الحالية، دولة رأسمالية تبحث عن تعزيز مصالحها، دون أي التزامات ايدلوجية أو عقائدية ثابتة، ومصر دولة فقدت مقومات قيادة المنطقة منذ سنوات بعيدة، ربما منذ قرر السادات أن اللعبة في يد أميركا. عسكريا، على سبيل المثال، تستطيع روسيا تقديم السلاح، ولكن الجيش المصري الذي اعتمد لنحو أربعة عقود على السلاح والتدريب الغربي، من غير الوارد أن يتحول بين عشية وضحاها للتسليح الروسي.
أكثر من ثمانين بالمئة من سلاح الطيران المصري، وكل سلاح المدرعات تقريبا هو أميركي الصنع، وإن احتفظ الروس للآن بوجود ملموس في مجالات مثل الدفاع الجوي وسلاح البحرية. اقتصاديا، يستطيع الروس مساعدة مصر في مجالات التصنيع الأقل تقنية، أو حتى إعادة تأهيل لبعض المصانع القديمة، وربما تسهيلات في مجالات مثل النفط والغاز، وشروط ميسرة في استيراد القمح، ولكن روسيا ليست بالدولة المانحة أو المقدمة للقروض التي يمكن أن تعول عليها مصر، ولا هي بالدولة النافذة التي تستطيع توجيه المؤسسات المالية الدولية لخدمة المصالح المصرية.
تبقى المعضلة الأكبر نحو تطور العلاقات، هي التباين السياسي، تحديدا في القضايا الإقليمية الأكثر حساسية، وتحديدا بالنسبة لسوريا وإيران، فموسكو هي أقرب حلفاء الدولتين، على النقيض تقف مصر في مسافة أقرب كثيرا للمعسكر الرافض لاستمرار الأسد، وعلاقتها مقطوعة تماما بإيران منذ عقود، ولديها تحفظات كبيرة على سياسات إيران الإقليمية وطموحاتها النووية. يزيد الأمر تعقيدا أن أقرب الدول الداعمة لمصر، والتي ساندتها اقتصاديا وسياسيا بعد إسقاط نظام الإخوان، هي دول أقرب لأن تكون في حالة عداء للنظامين السوري والإيراني. وهو ما سيشكل بدوره ضوابط على اي تحرك مصري. في ظل هذه المعطيات، يبدو التعويل على تحالف مصري- روسي كامل، دربا من الأمنيات لدى البعض أكثر منه أمر قابل للتحقق. الأقرب أنها محاولة لإعادة التوازن لسياسة خارجية اختلت كثيرا بوضع البيض كله في سلة واحدة، هي السلة الأميركية لعقود.
تعليق واحد على “عودة الدب الروسي”
الكثيرون يا محمد يحسون أننا ارتددنا بغتة لحقبة الستينيات..وأن الدب الروسي سيعود للهو مجددا معنا..لكن يا ترى كيف ستكون الرقصة؟ ربما في مقالك ملامح مما سيكون