نعم.. يحتاج كل مجتمع بقدر أو بآخر إلى وعاء ثقافى ينهل منه – ويضع فيه- مجموعة من المرجعيات والأفكار بل والأعراف والتقاليد التى تؤطر هذا المجتمع فى فترة زمنية معينة، لتوثق للتاريخ -من خلال ذلك الإناء- الشكلَ الثقافىّ الذى كان عليه المجتمع ومراحل تطوره. ولا بد لاكتمال دورة النقل من وإلى ذلك الوعاء أن يكون له طرفان: المتلقى من جهة والمثقف المنتِج من جهة أخرى، وعلى هذا فإن دور المثقف -والفنان على حد سواء- يبدأ بتقديم المادة المتمثلة فى هيكل أدبى أو فنى لتترسخ وتُختزن فى لا وعى القارئ أو المشاهد ويُعاد إنتاجها فى سلوكه المجتمعى، ومن فرد إلى آخر تنتقل ثقافة ذلك السلوك بالتواتر المقبول المتفق عليه ضمنيًا بين أفراد المجتمع، على ذلك فإن الباب الأول الذى كانت تدخل منه لفظة جديدة أو سلوك مستحدث إلى أرض الشارع والمجتمع ربما يكون كتابًا أو فيلمًا أو مقالاً فى جريدة، والأجدى من هذا كله أن تقوم وزارة الثقافة بالدور الذى أنشئت من أجله.

وفى هذه المرحلة المضطربة على جميع الأصعدة تشكل الحالة الفنية المرجع الأكثر انتشارًا وتأثيرا على الشارع المصرى. ورغم انحسار وتراجع قنوات التوعية الأخرى يُلام القائمون على العمل الفنى بشكل كبير، وعلى رأسهم بالطبع مؤسسة السبكى وكل من يعمل معه أو له، دون النظر إلى الحالة الرثة التى وصل إليها الشارع المصرى بالفعل. وأنا هنا لا أدافع عن السبكى أنا فقط أرصد محاولاته لإثبات القاعدة الأكثر انتشارًا “الفن مرآة يعكس حالة المجتمع” فى حين أن الفن يجب أن يكون القائد الذى يصدِّر للمجتمع القاعدة القيمية الحقيقية، وأضرب مثلا على ذلك بالمشهد الذى تقول فيه الراقصة تحية كاريوكا للبطل الذى يعرض عليها العمل كراقصة “يا لهوى.. أنا أشتغل رقاصة؟” وكأنها تعرف أنها فى الواقع تمتهن مهنة خارجة عن السياق المجتمعى ولكى تحافظ على ترحيب الناس بأفلامها فإنها لا يمكن أن تتفاخر بمهنتها أو أن تحرض الفتيات على الاقتداء بها.

لم يكن الفكر وقتها فرديًا، فالاعتراف بأهمية وتأثير المنتج الثقافى كان سائدًا على مستوى الدولة، ومن خلاله كانت تُسرب أو تُصرح بمعلومات على قدر من الأهمية ولكنها موجهة إلى مستقبل بعينه لتؤدى مهمة بعينها، وإلا لما كانت هناك سلسلة أفلام إسماعيل يس والتى كانت بالأساس تهدف إلى استعراض الأسلحة الحربية فى مصرفى الفترة التى تلت ثورة 1952 فقد أُنتج على سبيل المثال إسماعيل يس فى الطيران عام 59 وإسماعيل يس فى الأسطول عام 57 أبرزت السلسلة بأكملها الجيش المصرى فى أوج قوته وازدهاره.

ومنذ طُرحت فكرة إنشاء وزارة للثقافة –عام 1936- تقوم على تنظيم العمل الثقافى والإصدارات التى من شانها التأثير على فكر ووعى وأفق المتلقى، كان العقاد رحمه الله من أبرز المعارضين لهذه الفكرة وكان مبدأه أن الثقافة تفكير والتفكير لا يمكن أن تشمله أو تقننه وزارة، ولكن المُراد قد صار وأصبحت وزارة الثقافة هى الجهة المنوطة بدس القيم والمرجعيات التى تعمق الهوية المصرية العربية إسلامية كانت أو مسيحية، ومع الوقت ومع تغير سمات الفئة الغالبة من الشعب المصرى وانحسار فكرة القراءة للثقافة أصبحت الوزارة تقوم من حيث الأساس على “السبوبة” و”المصلحة” وغلب عليها فكر “الموظفين” ولم يعد للفكر بها إلا ذكرى، وتشعبت بها علاقات المصالح المتبادلة للفوز مثلا بمهرجان هنا أو هناك واقتسام الجائزة بين الفائز المُعلن أمام الناس وبين من سمحوا له بالفوز وانسحبوا من المنافسة أمامه ليختلى هو بالمزاد، أو غير ذلك من طرائف المثقفين التى تسمح بأن يُنظَّم مهرجان للشعر ولا يفوز بجائزة المهرجان أحد الشعراء المشاركين بل يفوز بها رئيس المهرجان نفسه!

حين يكون هذا هو حال وزارة الثقافة التى وُجدت من عدم لغرس وتشعيب ورعاية وتهذيب الثقافة بأطيافها المختلفة فى التربة المصرية بما يخدم الحفاظ على الهوية، وحين ينشغل المثقفون بمحاربة بعضهم البعض، فإن المجتمع/السبكى لا يكون مخطئًا عندما يجتهد بشكل فردى ليكتب أغنية أو فيلمًا أو يؤلف كتابًا، وبالتوازى مع اللانظام التعليمى فإننا بسهولة نجد كاتبًا يجمع أرنب على “قرانب” ونجد آخر لا يعرف أن توفيق الحكيم قد توفاه الله، وثالثًا يغنى بأعلى درجات الصدق “نحن نريدها هلس”.. المجتمع هو من احتاج وهو من أنتج وهو من استهلك ذلك العبث فى غفلة من المثقفين أو أنصاف المثقفين، وعلى ذلك فلا يحق لأحد الاعتراض.

**لقد عملتُ فى وزارة الثقافة عامًا كاملاً -فى الهيئة العامة لقصور الثقافة- بعد تخرجى من الجامعة مباشرة وكنت على فوهة بركان يغلى بنيران الحماس للعمل والإنجاز، ولكنى مع طلب مديرى بأن أذهب للعمل مرة واحدة فقط إسبوعيًا من العاشرة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، ومع اضطرارى لسماع جلسات النميمة بين زميلاتى السيدات وزملائى السيدات أيضًا وهم يتناولون “الفسيخ” على مائدة الإفطار، كان لا بد من فسخ عقدى المؤقت بعد عدة محاولات فاشلة -ولله الحمد- من السيد أحمد نوار لإبقائى فى المكان.

السادة المثقفون، من كان لديه اعتراض على أفلام السبكى أو على “نحن نريدها هلس” أو ما يجرى فى عموم الوسط الثقافى/الفنى أوعلى تراجع الدور المؤسسى للوزارة وإفساح المجال لأفراد غير مؤهلين، فليفعل شيئًا الآن أو فليصمت إلى الأبد.