لم يكن الأمر سهلاً و كان التحدي الأكبر في سلسلة هجوم الديكتاتورية على التجربة الديموقراطية الجديدة ، كان العسكر كعادتهم يريدونها زرقاء أمريكية تلون فاشيتهم الموروثة من كبيرهم الذي مات ، أرادوها نيراناً زرقا تحرق الحُمر الاشتراكيين و تحيل جمرة الديموقراطية لقطعة من الفحم المستهلك لا روح فيها و لا فائدة ، كانت محاولة الثالث و العشرين من فبراير 1981 الانقلابية إحدى الدروس التي على شعوب الشرق تعلمها و على جيوش العرب إستيعابها فليست مصائر جنرالات بنغلاديش و تركيا (بحق أو ظلم) و غيرهم بعيدة لكن محاولة الانقلاب الاسبانية كانت درساً للجيش حول موقف الجيش نفسه قبل أن تقع الكارثة فهل يستمع عسكرنا إلى قصة العرش الاسباني و ال 23 – F التالية؟
* منذ الثلاثين من يناير بالعام 1938 عاشت أسبانيا و إلى وفاة الجنرال فرانكو بالعشرين من نوفمبر 1975 في قبضة الحكم الإستبدادي الفاشي الذي تنقل بين ولاءات هتلر و موسيليني الى الولاء لواشنطن قابضاً على البلاد بقبضة من جحيم عاش فيه الاسبان غير مصدقين بالنجاة معتبرين فرانكو النتيجة الطبيعية لحاكم قفز للسلطة من حرب أهلية دامية ، بوفاته كانت الامال معقودة لظهور تجربة ديموقراطية حقيقية بديلة عن اليمين القابع على قلوب الاسبان المبيد لأي معارضة بالذات لاشتراكيين و الشيوعيين ألد أعداء فرانكو ، حتى الملك لم يخرج من قبضة الجنرال فبين ملك هارب و إبنه المطالب بالعرش تحت وصاية فرانكو لم ينجح أحد و إستخلص فرانكو لنفسة خوان كارلوس الحفيد ليربيه كما يشاء ليصير ملكاً بالفعل متجاوزاً الاب بأمر جنرال مديري ، في 1969 تولى خوان ولاية العهد ليصير ملكاً بعد وفاة الجنرال بخمسة أيام لتُطوى صفحة ديكتاتور مدريد و تبدأ مرحلة الديموقراطية.
* لم يكن رجال و تلاميذ فرانكو اليمينيين و العسكريين يروق لهم ما يحدث ، تلك الديموقراطية أتت في 1977 ب 29% من البرلمان اشتراكيين و 10% شيوعيين و صعود الحزب القومي الباسكي و نشاط منظمة ايتا الارهابية و تراجع الاقتصاد ثم إفشال محاولة انقلاب في 11 نوفمبر 1978 و تزايد الاستقالات بالجيش كل هذا لم يرق لهم ، كان صعود اليسار مقلق فهم تربوا على كراهيتهم و اعتقالهم و محاكمتهم عسكرياً و أنهم خونة يريدون السيطرة على البلاد فكيف اليوم يقبلون بهذا الصعود؟
حتى الملك توالت الضغوط عليه لكي يتدخل لكنه رفض لأنه ملك ديموقراطي لن يتجاوز إرادة الصندوق حتى لو كان ملكا بلا سلطات فهذا بلد لا يحق لأحد فيه تجاوز قرار شعبي و لو كان خاطئاً فبالنسبة له موقعه الشرفي أفضل من “خيال مآتة” بيد العسكر.
* جاءت جلسة 23 فبراير المخصصة للتصويت على حكومة كالفو ستيللو و قبل منتصف السادسة مساء بقليل و أمام أعضاء البرلمان و على مسمع الشعب الاسباني الذي ينصت للجلسة عبر الراديو إقتحم الكولونيل انطونيو تاخيرو رجل فرانكو المعروف القاعرة مجبرا الكل على الانبطاح الا رجلين لم يلتفتا له رئيس الوزراء أدولفو سواريز و القيادي الشيوعي سانتياغ كاريو اللذان جلسا متجاهلين ما يحدث كأن لم يكن ، نهض وزير الدفاع السابق مانويل غوتييريز ميادو و طالب تاخيرو بالقاء السلاح في مشهد يجلب الاحترام لرجل عسكري فضل تحدي الرصاص على أن يقبل بالانقلاب الذي يقوم به رفاقه و ربما يشاركهم نفس الرأي في الحكومة ، على الفور بدأ الانقلابيون اكمال الخطة ليتحرك الجنرال ميلانس دل بوش في فالنسيا مؤيداً الانقلاب و تعلن المناطق الثانية الى الخامسة بإشبيلية و سرقسطة و برشلونة و فالنسيا تأييد الانقلاب و على الجانب الاخر ألفونسو ارمادا نائب رئيس هيئة اركان الحرب و مساعد الملك الشخصي للشئون العسكرية يمارس دور مزدوج عبر لعبه دور الوسيط لتشكيل حكومة مختلطة بنما الهدف الحصور على موافقة الملك على الانقلاب.
لكن ماذا عن باقي قوات الجيش و الملك؟
* تلقى خوان كارلوس اتصالا من ارمادا قال فيه ان “الجيش مؤسسة وطنية لن تقبل برؤية البلاد تتردى” مطالباً الملك بدعم الجيش او عدم معارضته فكان رد الملك كلمتين: “على جثتي”
* الجيش هنا أحبط الانقلاب .. قوات الانقلاب فقط و قلائل أيدوه بينما وقفت قوات الجيش بباقي البلاد صامتة لا تؤيد و تنتظر قرار الملك الدستوري ، نعم حينها تكامل موقف خوان كارلوس فالجيش انتظر الملك الشرعي ليتكلم و الملك رأى الجيش صامت لا يتحرك فيه الا رجال الانقلاب فقط فخرج بقراره.
*باليوم التالي ظهراً ظهر الملك الذي قضى ليلته يهاتف جنرالات الجيش و يتبادلون تأييد الديموقراطية ليعلن و هو بزي قائد الجيش أمام الشعب ليقول ضد الانقلاب و مع الديموقراطية” و إنتهى الانقلاب و تبخر في لحظات!
*الجيش أحبط الانقلاب لأنه التزم بشرعية الملك و انتظر كلمته.
الملك الدستوري المؤمن بالديموقراطية إلتزم با.
الانقلابيون نالوا حكماً بالسجن ل 30 عاماً.
في 1982 فاز الاشتاكيون بالحكم و لم تحترق اسبانيا بل احترقت كل مخططات الانقلاب التالية.
* كانت تجربة الثالث و العشرين من فبراير 1981 تجربة أولى لموقف الجيش من قادة الجيش و موقف الحاكم الاسمي من الديموقراطية و موقف حدد مصير اسبانيا الى اليوم في نظام ديموقراطي اقوى من الانقلاب و العسكر ، أعطى خوان كارلوس و الجنرالات الصامتين و البرلمان الاسباني درساً للكل فذلك الذي صاح يطلب من تاخيرو قتل البرلمانيين اليساريين تلاشى و بقيت الديموقراطية ، سبانيا لم تدخل حرب أهلية حينما حكمها الإشتراكيون و لم تنتهي وحدتها و لم يتم بيعها للسوفييت و لم يحدث ئ إلا أن ارس الشعب حقه في بناء دولته ، منح الجيش و كارلوس شيئاً لبلادهما إسمه ديموقراطية.
تعليق واحد على الجيش و مليكه يحبطان الانقلاب… 23 – F
الجيوش وانقلاباتها، الملوك وعروشها، الشرعية وخروقاتها، الديكتاتورية وما هو عكسها..كلها ثنائيات تعصف بكوكبنا!
مقالك مثير للأسى يا محمود، إذ يستعرض كل هذه المحطات المريرة والصراع الذي لا ينتهي أبدا..