الحقيقه…..أسمى شيءٌ بالوجود , أعلى من قمم الجبال , انقى من ينابيع الماء , أوضح من شمس النهار ….و لا ننسى قصة الفيلسوف الأغريقي “ديوجين” أذ كان يوقد مصباحاً في وضح النهار ويمشي في شوارع اثينا مدعياً أنه يبحث عن الإنسان الفاضل الحكيم , الإنسان الذي لا يوجد بين سكان المدينة…أي بحث عن حقيقه الأنسان …فمسيرة الأنسان في الحياة لا تنحصر داخل أطار ديني أو أجتماعي أو أي معتقد اخر , فالأنسان الحقيقي مزيج من الأتجاهات و الأفكار المتغيره والتي قوامها بحث و أجتهاد وأطلاع الأنسان , لغرض الوصول الى أقرب نقطه ألى الحقيقه , فالحقيقه المطلقه لم ولن يدركها الانسان أبداً …الفيلسوف الألمانـي أفرايـم ليـسين له مقوله رائعه بخصوص ما أتطرق أليه …أذ يقول ” لو كان بيد الرب اليمنى الحقيقة كلها ، الحقيقة الكاملة الناجزة ، وبيسراه البحث الدؤوب عنها المترافق مع السعي الدائم والخطأ ، ثم قال لي : اختر….لجثوت على ركبتي عند يسراه وقلت له : إلهي أعطني مافي اليسرى ، أما الحقيقة كلها ، فهي تليق بجلالك .. الحقيقة لك “….فليسين قد أصاب كبد الحقيقه في قوله السابق , فوهم أمتلاك الحقيقه المطلقه يسري كالسم في أيدلوجية عقل الأنسان المتطرف سواء كان مسلماً , مسيحياً , ملحداً….الخ .
واليوم نرى جدلٌ واسع بين سائر الباحثين والعلماء والفلاسفه في كيفية وضع الأولويات اللازمه لغرض الحصول على أفضل تفسير للواقع , فمنهم من يُقيـدها داخل أطار البحث المادي أو الدليل المادي ( وهو كل دليل يمكن ملاحظته أو أخضاعه للتجربه ) , و منهم من يُشرك مع الدليل المادي الدليل العقلي أو العقلاني والمبني على مجموعة من الأفتراضات المنطقيه المؤديه ألى أستنتاج يُمثل التفسير الأفضل .
فالعلمويه : هي وجهة النظر التي تقول بأن العلم التجريبي يشكل الرؤية الكونية الأكثر موثوقية أو الجزء الأكثر قيمة من تعلم الإنسان الذي يستبعد وجهات نظر أخرى , و التي ترى بأن الطرق الاستقرائية المميزة للعلوم الطبيعية هي المصدر الوحيد للمعرفة الواقعية الحقيقية ، كما أنها وبشكل خاص تستطيع وحدها أن تسفر عن المعرفة الحقيقية بالإنسان والمجتمع , ومن هنا أنطلق في أيضاح العراقيل التي تواجه المنهج العلموي (المادي) في أثبات العديد من الأمورالأنطولوجيه (الوجوديه) رغـم أستدلال العقل على أمكانية وجودها…مثلاً…أن الأنسان البسيط يؤمن بوجود جده الـ20 رغم عدم أمتلاكه أي دليل مادي على وجوده , فـهو لم يكلمه ولم يسمعه و لم يراه , بل وحتى قد لا يعلم أين قبره …لكنـه بالرغم من هذا فهو يؤمن أيماناً مطلقاً بوجود جده الـ20….فهـو قد توصل ألى أمكانية وجود جده من خلال الدليل العقلاني …فلولا وجود جده الـ20 لن يكون هناك وجود لجده الـ19 وبالتالي لن يكون هناك وجود لجده الـ18 و بالتالي الـ17……الخ وبالتالي سيكون هـو غير موجود ..فأذن وجوده دليل على وجود جده الـ20 ….وهذه العمليه تسمى بالأستنتاج العقلي أو البرهان المنطقي …. فأذا أعتمد ألأنسان (في المثال السابق) على الدليل المادي فقط…فعليه ألأ يؤمن بوجود جده الـ20 …وهنا يَحدث الأنتحار العقلي ….و حتى الحقائق الزمانيه فالمنهجيه العلمويه لا تستطيع أثباتها أو نفيها لعدم وجود الدليل المادي عليها …فكيف نستطيع اثبات ان الماضي كان موجود ؟؟ أو ان الحاضر يحدث الأن ؟؟ وأن المستقبل سيأتي ..؟؟…فكلها مفاهيم توصل العقل ألى أمكـانية حدوثها…بدون أي دليل مـادي عليها.
ونأتي الى العقل البشري…فهـو يشكل معضله فلسفيه علميه في آناً واحد , فالـمخ البشري علمياً يتكون من شبكات بالغة التعقيد من الخلايا العصبية و أن الأفكار هي عباره عن نشاطات كهروكيميائيه , وهذه كلها امور ماديه…لكـن أن كان العقل مادي ..كيف أستطاع أن يعيّ أو أن يفهم المجالات ما فوق الماديه ؟؟ كـيف أستطاع أن يدرك مفاهيم مثل الماضي , الحاضر , كـيف أستطاع أن ينبهر بالجمال و أن يُعجب بالشجاعه و يتطلع ألى الحقيقه و الحريه و العداله ؟؟ فهذه كلها مفاهيم لا ماديه لكن العقل أغرسها في أبطانهِ …فالفيلسوف الأسترالي ديفيد شالمرز مدير مركز أبحاث العقل في أستراليا فيرى أن العقل ظاهره غير فيزيائيه , غير ماديه وأن كان على أتصال بالظواهر الفيزيائيه , ويرى أن العقل والمخ يختلفان تمام الأختلاف ويتنميان ألى عالَمين مختلفين , فالمخ ينتمي الى عالم الماده , والعقل ينتمي الى عالم غير مادي لا نعرف عنه شيئاً , و كذلك فأن استاذ الكيمياء الحيويه فرانكلين هارولد يرى أن الفكر المادي فشل في تفسير أو فهم الظواهر الثلاث الكليه وهي الكون , الحياة و العقل….ومن هنا نستنتج بأن العقل البشري مستحيل بأن يكون عباره عن جزيئات أو ذرات ماديه فقط .
وليس هذا كل شيء فالعلم لا يستطيع أثبات أو نفي وجود الذات البشريه …فجسم الأنسان علمياً يتكون من مجموعة من الأعضاء و الأنسجه , ثم ألى خلايا , ثم ألى الجزيئات حتى يصل ألى مستوى الذرات…ولكـن ما الذي يجعل مجموعة من الذرات تتكلم عن نفسها في عالم مادي ؟؟ ما الذي يجعل “ألانا” حاضره في هذا الوسط المادي ؟ , وديكارت كانت يتسائل دائماً بأن ذلك الانا هل هو البدن أم النفس ؟؟ ولقد حاول ديكارت أن يقيم ميتافيزيقا مرتكزه على اليقين ولذلك فأنه قرر بألا يقبل بالوقائع التي لا يمكنه الارتياب فيها , وحتى يبدأ فأنه أنطلق من حقيقه وحيده , أنا موجود , لأن مجرد التساؤل عن هذا الطرح الأول هو البرهان بأنه تواجد أمرؤ ليتسائل .
فالشعـور بالذات أو الوعـي بالذات أثار أهتمام الفلاسفه والمفكّرين منذ زمن طويل , فالوعـي عند علماء النفس يمثل : الحالة العقلية التي يتميز بها الإنسان بملكات المحاكمة المنطقية، الذاتية (الإحساس بالذات (subjectivity) (، والإدراك الذاتي (self-awareness) ، والحالة الشعور (sentience), والحكمة أو العقلانية (sentience) والقدرة على الإدراك الحسي(perception) للعلاقة بين الكيان الشخصي والمحيط الطبيعي له . ( حسب تعريف الويكبيديا)…..هيغل الفيلسوف الألماني يرى أن الأنسان هو الموجود الوحيد الذي يعي ذاته، باعتباره يوجد كما توجد أشياء الطبيعة، وباعتباره موجودا لذاته. أما الأشياء الأخرى فإنها لا توجد إلا بكيفية واحدة , وعلى هذا الأساس يجب على الإنسان أن يعيش بوصفه موجودا لذاته ذلك “لأنه مدفوع إلى أن يجد ذاته ويتعرف عليها فيما يلقاه مباشرة ويعرض عليه من خارج.”..على عكـس كارل ماركس الـذي كان متهم بفلسفة هيغل لكنه أنشق عنها وبدأ بصياغة فلسفته الشخصيه المعتمده على الماديه فقط , و التي تعتبر أن الوعي عباره عن أنعكاس كامل عن الماده , لكن كما قلنا سابقاً كيف يستطيع العقل أو الوعي ان يدرك ويتفاعل مع مفاهيم مثل العداله والحريه و الجمال وغيرها وهذه كلها مفاهيم غير ماديه .
أما العلماء في الوقت الحالي ( ذوي النزعه العلمويه ) يعترفون بعدم قدرتهم على تقديم كيفيه ماديه لتفسير ماهية الوعي ….فريتشارد دوكنز عالم البيولوجيا و الأيثولوجيا البريطاني الشهير يعترف بأن السؤال عن الوعي هو سؤال صعب حتى على عالم البيولوجيا أو اي عالم أخر فهو لا يملك القدره على فهمه , و كذلك يؤكد على عدم مقدرة المنهج التجريبي (المادي) في فهم ماهية الوعي , ويكتفي بقوله أننا (البشر) واعون وحسب , و قد صرّح تشارلز سايف الاستاذ المساعد في جامعة نيويورك ” بأن العلماء ليس لديهم فكره حقيقيه عن كيفية ما يقوم به الأ بطريقه عامه جداً , وقد مّر الفلاسفه والعلماء بأوقات صعبه حتى لمجرد تعريف ما الوعي ؟ , والأبسط من ذلك حتى . من أين يأتي ؟ فهل الوعي هو الشيء الذي ينبثق ببساطه من مجموعه معقده جدأ من بتات تنشط فجأه ؟
وأخيراً….فكما قلت في مقالي السابق , فأنا لا يهمني شيء سوى الحقيقه وأتمنى من الجميع نقد المقال وتصحيح أرائي أتجاه بعض النقاط التي أخطأت بها …محبتي .

المصادر :
1- تعريف العلمويه في الويكبيديا .
2- تعريف الوعي في الويكبيديا .
3- كتاب : رحلة عقل – عمرو شريف – ص207 , ص209 , ص210
4- كتاب : الدماغ والفكر- تشارلز فيرست – ص17
5- كتاب : فك شفرة الكون – تشارلز سايف – ص231
6- رابط لـ كلام ريتشارد دوكنز بخصوص الوعي