الصرخات تتعالى، جميع السكان يفتحون النوافذ والبلكونات، رذاذ الندى بارد فى هذا الصباح الباكر من صباحات ديسمبر، المارة بالشارع قليلون.. واقفون هم فى أماكنهم متجمدون فى تلك الملابس الثقيلة وتُدثِّر رؤوسهم الكوفيات كأنهم تماثيل شمعية، رؤوسهم مرفوعة لأعلى وعيونهم جاحظة رغم آثار النوم العالقة بها، مر وقتٌ من الوقت ولم يتغير حالهم… ترك الناظرين نوافذهم وهرعوا إلى سطح عمارتهم ليشاهدوا عن قرب ما يُفغر أفواه المارة.
********************************
لا تزال بعض بنايات وسط البلد تحتفظ بذلك الطراز المعمارى “الطبقى” الذى يتيح حجرات صغيرة فوق الأسطح للبوابين والشغالين، وعلى ذلك السطح الكبير تسكن “شروق” مع أبيها بواب العمارة، لا تدخل شروق شقق العمارة لكنها تعرف عن ساكنيها الكثير والكثير من ملابسهم التى تتولى مهمة غسيلها بشكل يومى وتسلمها إلى الأب ومنه إلى “الهوانم” سيدات البيوت. تعرف شروق مثلا أن صاحبة شقة 2 فى الدور الأول تلبس الأسود حدادًا على أحد معارفها برغم عدم ارتفاع أصوات مقرئى القرآن ودون أن يضج المنزل بالمُعزِّين، تعرف أيضًا أن طالبة الثانوى التى تسكن شقة 10 لم تذهب إلى المدرسة منذ أسبوع كامل ولم يرد “اليونيفورم” الخاص بها ضمن الغسيل، ولعل لذلك علاقة بالقطع الكبير الذى لم يفلح “الرفا” أن يخفيه تماما فى جونلة اليونيفورم والذى تعتقد شروق أنه نتيجة معركة هنا أو هناك مع إحدى زميلاتها.. والرجل الشايب –كما تطلق عليه- ساكن شقة 6 الذى سافرت زوجته إلى أهلها منذ أسبوعين ورغم ذلك لا تنقطع علامات أحمر الشفاه والبرفانات الحريمى عن ملابسه، بالإضافة إلى قصاصات المجلات الإباحية وأعقاب السجائر التى تضبطها فى جيوب طالب الإعدادى من سكان الشقة 15.
لم تكن تتعاطف مع أى من سكان العمارة عدا تلك السيدة قاطنة شقة 13 وزوجها، ملابسها نظيفة معظم الوقت لدرجة جعلت شروق تظن أنها تغسلها قبل إرسالها إليها، تتلصص –ببراءة- عليها فى تلك المساءات الناعمة التى يعلو فيها صوت الموسيقى وتختلط بضحكات السيدة الأنثوية العالية وتصاحبها ضحكات زوجها المكتومة بعض الشىء.. حين تجلس السيدة مع زوجها صاحبة الشقة 13 جلسة رومانسية “كما تطلق عليها شروق” تتبين تلك اللعينة ملامح الجلسة من رداء النوم الأحمر البالى الذى تصر السيدة على ارتدائه..
كان صادمًا أن يقرر زوج سيدة الشقة 13 أن ينهى حياته فى صباحٍ باردٍ بذلك الحبل ردىء الصنع الذى تعلقت به رقبته بحيث تدلى جسده عاريًا تمامًا فوق السطوح كأنه يعرض نفسه للمارة عن عمد..
شهرٌ مرَّ على تلك الواقعة تحولت فيه غالبية ملابس السيدة إلى اللون الأسود واتخذ الأمر من تفكير شروق أكثر مما ينبغى ووصل الأمر فى إحدى الليالى إلى أنها سمعت ضحكاتها، نفس الضحكات الأنثوية الناعمة، والموسيقى العالية والضحكات الذكورية المكتومة، ووصل الأمر أيضًا فى اليوم التالى إلى أن يوجد نفس الرداء الأحمر ضمن غسيل الشقة 13.
تعليق واحد على شقة رقم 13
الجميل فى قصتك يا هبة أنها تحتمل التأويل بأكثر من معنى، لكنها فى النهاية وعلى كل الأوجه تنقل الحزن والشجن بقوة إلى نفس القارئ فيصيبه الذهول.. تحياتى وأتمنى لك دوام التواصل