أجريت هذا الحوار مع المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد في منتصف مارس 2007 عبر البريد الإليكتروني. ورغم أن طبيعة الأسئلة والأجوبة ستشرح الأجواء التي كانت مسيطرة على الظرف العام حينها، من بدء بث موجات التكفير العلني، إلا أن إجابات أبوزيد تظل صالحة كقراءة مفتاحية لما يجري الآن.
ففي هذه الفترة التي شهدت بزوغ نجم المدرسة السلفية المصرية وخروج فضائيات تتحدث باسمها للرأي العام، وفي ظل التحولات الجيلية التي كانت تعصف بحركة الإخوان المسلمين، ومع فتح منابر على شبكة الانترنت لباقي الحركات والأطياف (المعتدل منها والمتشدد)، كان لزاما على المراقبين الاجتهاد لفهم الشريحة الإسلامية التي ستتصدر المشهد، بصورة رسمية أو غير رسمية.
فبعد سقوط بغداد، ومع اختناق الأجواء العربية بحكامها، لأسباب متداخلة، تفاعلت قوى إسلامية على نحو مختلف مع الظرف الراهن، وأعادت انتاج إرث القرون الخالية-على عجالة- في خلطة أربكت الجميع، بمن فيهم الإسلاميون أنفسهم الذين لم ترحمهم التغيرات والاختلافات والتناقضات البينية.
ودون الإغراق في شرح ملابسات ظرف، نعايش ثماره المريرة الآن..يجدر قراءة هذا الحوار الذي جاء على شكل إجابات مقالية مطولة من أبوزيد –رحمه الله-، آليت ألا أتدخل فيها تحريريا بالتطويل أو التقصير أو التقسيم، تاركا له عنان إجاباته الثمينة.
في محاولة لفهم المنطلقات والمآلات. مع العلم بأن هذا الحوار لم ينشر كاملا من قبل وإنما تم اجتزاء بعض الأسئلة وبعض الأجوبة، بما سمح به طبيعة النشر الورقي آنذاك عام 2007 في صحيفة البديل اليومية المصرية.
التكفير في مصر علي وجه الخصوص ما هي ملابساته،ومن الواقفون خلفه،وماهي دوافعهم؟
ملابسات التكفير في مصر معروفة حيث انطلقت من مفهوم “جاهلية المجتمعات الإنسانية” قاطبة؛ لأنها لا تقيم “حاكمية الله” وتستبدل بها “حاكمية البشر”. وهذا المفهوم استعاره “سيد قطب” من المفكر الهندي “أبو الأعلى المودودي” كما هو معروف أيضا. ومن المعروف أن فكر “المودودي” يستمد مرجعيته الاجتماعية والسياسية من حالة الاحتقان السياسي التي حدثت بين الهندوس والمسلمين في الهند في الربع الأول من القرن العشرين، ورغبة المسلمين في تأكيد هويتهم الدينية على حساب هويتهم القومية. أما المرجعية الفكرية للمودودي فهي المرجعية الوهابية، وهي المرجعية التي ساهم “رشيد رضا” في إدخالها في نسيج الفكر المصري، ومنها انطلق فكر “حسن البنا” مؤسس جمعية الإخوان المسلمين عام 1928.
من كتابات “سيد قطب” تشرذمت حركة الإخوان وانفصلت عنها جماعات التكفير بدآ بجماعة “التفكير والهجرة” وغيرها من الجماعات التي يقوم فكرها على “تكفير” المجتمع والدعوة إلى الانشقاق عنه ومحاربيته.
أما الواقفون خلفه – خلف فكر التكفير الآن – فهم جماعات شتى أغلبها جماعات دينية، وبعضها جماعات غير دينية تمارس “التكفير” السياسي والاجتماعي. بل إن الدولة = بجهازها السياسي تمارس التكفير من خلال مجلس الشعب – وهذا أخطر – ومن خلال جهازها الأمني القمعي تميز بين المواطنين على أساس الدين، وهذا نمط من التكفير خطير.
إن كل أنماط التفكير الديني والسياسي والعرقي والثقافي، تعتمد على ثقافة شاعت في المجتمع المصري والمجتمعات العربية، هي ثقافة الاستبعاد والإقصاء. وهي ثقافة تخاصم “التفكير” وهو النهج الكاشف عن خطر “التكفير”، في حين أن “التكفير” انقلاب ضد “التفكير”، ولا غرابة في ذلك فالمفردتان اللغويتان “فكَّر” و “كفَّر” تنتميان إلى مادة لغوية واحدة من حيث أصل الاشتقاق. أنها مادة الفاء والكاف والراء (فكر) تم قلبُها بتقديم الكاف على الراء مع بقاء التضعيف “بالشدَّة” على الحرف المتوسط في الحالتين؛ وهكذا انقلب التفكير إلى تكفير.
-وكيف تتوقع مستقبل موجات التكفير التي تطال كل مايقابلها دون تعقل، فمثلا لدينا الآن رسالة ماجستير أعدها طالب أصول دين تكفر مجلة روزااليوسف منذ نشأتها بكل العاملين فيها!!
هذا نمط لا مستقبل له؛ فالمستقبل شئنا ذلك أم أبينا هو “المجتمع المفتوح” الذي يدين الناس فيه بدين واحد هو “المواطنة” حيث لا تمييز على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الثقافة، وحيث يكون التمييز الوحيد قائما على أساس “الكفاءة” مع تحقق الفرص المتساوية أمام المواطنين في التعليم والمعرفة. ما يحدث في مصر الآن فساد على جميع المستويات والصعدة، أخطره فساد مؤسسة التعليم والبحث. هذا الفساد هو الذي سمح بإجازة رسالة “تكفيرية”، وهو الذي يعوِّق ترقي الباحثين الحقيقيين الجديرين بهذا الاسم.
-ومن المسؤول عن انطلاق هذه الدعاوي بلاتوقف؟
المسئول الأول هو حالة الاحتقان السياسي والعرقي والطائفي الذي أصبح يسود المنطقة كلها ضد أي آخر؛ لدرجة أن “المرأة” صار يمارس ضدها دعاوى تفريق من أهلها على اساس “عدم الكفاءة”. هذا يحدث في القرن الحادي والعشرين. “التكفير” أقصى محاولات الاستبعاد والحصار، بل وأقرب طريق إلى “القتل” في مجتمعات اختصرت هوية المواطن فيه في “الدين”، حتى الدولة تحدد هويتها في “الدين”، مع أن “الدولة” – ويا للمفارقة – لا تصلي ولا تصوم ولا تحج إلى بيت الله الحرام. حين يكون للدولة “دين” فإنها تميز بين مواطنينيها، وفي هذا التمييز يستكن مفهوم “الاستبعاد” و”الإقصاء”.
وكيف تستشرف مستقبل مصر في ظل مثل هذه القيود؟
وهل تعتقد أن دعاوي التكفير قد تكون صائبة احيانا مع الاستفزازات الفكرية التي يقدمها البعض للمتدينين،والتي تصل الي حد إنكار الدين جهرا؟
المستقبل مخيف إذا استمر الحال على ما هو عليه. والتغييرات الدستورية المقترحة تعني دوام الحال، بل تعني تحويل مصر إلى ملكية وراثية، أي العودة إلى القرون الوسطى. لا أعتقد أبدا بصواب أي “تكفير”، كل تكفير جريمة أيا كانت المبررات. والمتدين الذي يخشى على تدينه من استفزاز هنا أو هناك، أو الذي يطلب من كل البشر أن يكونوا متدينين هو في الحقيقة متدين ضعيف الإيمان هش العقيدة. إننا نخشى من “الحرية” مع أنها ملاذنا الوحيد؛ فنحاول أن نضع لها الشروط والمعوقات، مع أن “الحرية” هي القادرة على تصحيح نفسها. العجيب أننا نقبل بكل توابع الخصخصة واقتصاد السوق الحرة ولا نريد أن نتحمل بعض تبعات الحرية التي نريدها جميعا، وعلىرأسها الحرية الدينية، حرية أن تؤمن أو لا تؤمن، وحرية أن تؤمن بهذا الدين أو ذاك الدين.
وماهو الحد الفاصل بين الاجتهاد العلمي،والرغبة في طرح الافكار الشاذة،وكيف يمكن تنظيم وتقنين مثل هذه الامور؟
كما قلت الأفكار الشاذة لا تصححها إلا الأفكار المبنية على اجتهاد علمي، ولكن من المؤسف أنه ليس مسموحا بالاجتهاد العلمي في مسائل الفكر الديني في مجتمعاتنا. نحن نعيش حالة من التكلس الفكري والركود المعرفي تحتاج أحيانا إلى مثل هذا الشذود الذي يؤجج الرغبة في المعرفة. ثم إن بعض ما نعتبره من “الشذود” الآن قد يكون في المستقبل “فكرا” مقبولا. من يدري؟
وما هو المربع الذي يتوجب على المجتمع الوقوف فيه في ظل هذه التشابكات؟
لعل أهم التحديات التي تواجهها مجتمعاتنا العربية فيما يتعلق بالإسلام ذلك الاستخدام الإيديولوجي النفعي للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية محلية عاجلة. وسواء تم هذا الاستخدام من جانب جماعات سياسية بعينها ، أو من جانب أنظمة وسلطات سياسية فاقدة للمشروعية الاجتماعية والسياسية والقانونية ، فالنتيجة واحدة هي تحويل الإسلام إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية. ولننظر مثلا في مقولة أن الإسلام دين شمولي ، من أهم أهدافه ووظائفه تنظيم شئون الحياة الإنسانية الاجتماعية والفردية في كل صغيرة وكبيرة ، بدءا من النظام السياسي ونزولا إلى كيفية ممارسة الفرد لنظافته الذاتية في الحمام. هذه المقولة تفترض أن دخول الفرد في الإسلام بالميلاد والوراثة أو بالاختيار الواعي يعني تخلي الإنسان طواعية أو قسرا عن طبيعته الإنسانية الفردية التي تسمح له باتخاذ القرار بشأن كثير من التفاصيل الحياتية التي من شأنها أن تتضمن اختيارات عديدة. أصبح السؤال المتكرر هنا وهناك لا يتعلق بمدى ملاءمة هذا الاختيار أو ذاك بالنسبة للمجال الذي يتعين على الإنسان الاختيار فيه ، وإنما صار يتعلق بمدى سلامة هذا الاختيار أو ذاك من الوجهة الدينية والشرعية.
وحين تأخذ أسئلة الحياة هذا المنحى يتحتم أن تُتَوَقَع الإجابات الصحيحة من رجل الدين لا من رجل الخبرة والاختصاص في الشأن المعني. وقد عهدنا رجال الدين في كل عصر من العصور إذا سُئلوا عن رأي الدين في شأن من الشئون أن يَصْعُبَ على الواحد منهم أن يقول مثلا: “هذا أمر لا شأن للدين به” ، ذلك أن مثل هذا الجواب من شأنه أن يزعزع مقولة “الشمولية” التي يستند الخطاب الديني عليها في ممارسة سلطته. وحين تواجه الواحد من هؤلاء بأن نبي هذا الدين ومتلقي وحيه من الله عز وجل بواسطة الروح القدس جبريل لم يجد غضاضة ، حين لم ينجح اقتراحه في تأبير النخل ، أن يعلن أن هذا كان رأيا ارتآه ولم يكن وحيا من عند الله -حين تواجه الواحد منهم بهذه الواقعة التي أرست مبدأ “أنتم أدرى بشئون دنياكم”- تجده يستجيب على مضض. لكنه لا يلبث ، حين تشرح له دلالة الفصل بين شئون الدين وشئون الدين ، بل وأهمية الفصل بين آراء النبي واجتهاداته الخاصة وبين ما يبلغه عن ربه وحيا ، أن يلقي في وجهك مباشرة ودون تفحص بقول الله “وما ينطق عن الهوى” . ولو تفحص الآية الكريمة في سياقها ، وكذلك لو تفحص سياق قوله تعالى “والله يعصمك من الناس” لأدرك أن عظمة نبي هذه الأمة لا تكمن في عصمته وارتفاعه عن أفق البشر -وما العظمة في هذا إذا كان الأمر محض اختيار وترتيب إلهيين لا تعليل لهما- بقدر ما تكمن في ارتفاعه هو بجهده واختياره إلى آفاق المسئولية الكونية دون أن يفارق بشريته.
لكن ما هو الخطر في ذلك؟ الخطر إنما يكمن في ذلك الفهم السقيم للإسلام ، الذي من شأنه أن يرسخ سلطة رجل الدين والمؤسسات الدينية ، لتصبح سلطة شاملة ومهيمنة في كل المجالات. ومن شأن هذا الاستفحال والامتداد السلطوي أن يخلق وضعا نعاني منه الآن أشد المعاناة اجتماعيا وسياسيا وفكريا. فبرغم كل الادعاءات والدعاوى العريضة ، والفارغة من الفهم ، عن عدم وجود سلطة دينيه في الإسلام تشبه سلطة الكنيسة في المسيحية ، فالواقع الفعلي يؤكد وجود هذه السلطة ، بل وجود محاكم التفتيش في حياتنا. والسلطة هذه تجمع السياسي والديني في قبضة واحدة ، فيصبح المخالف السياسي مارقا خارجا عن الإجماع ومهددا لوحدة الأمة ، وبالمثل يقول رجل الدين إن من يغير دينه يجب التعامل معه بوصفه خائنا للوطن. إن اتحاد الدين والوطن يجد تعبيره في كل الدساتير السياسية التي تحصر الوطن في دين ، وتختزل الدين في الوطن. وهنا يُخْتَزَلُ الوطنُ في الدولة ، وتُخْتَزَل الدولةُ في نظامها السياسي ، ويجد المواطن نفسه حبيس أكثر من سجن.
إن مقولة الشمولية تبدأ من الفكر الديني لتخترق مجال السياسة والمجتمع ، أو تبدأ من الفكر السياسي لتأسر الدين في إيديولوجيتها ، والنتيجة واحدة. فأي خطر أشد من هذا وأي بلاء! الخطر الذي يجب التحذير منه أن يحدث في الإسلام ما حدث في المسيحية ، حيث أدى كفر الناس بسلطة الكنيسة إلى تحميل الدين كل جرائم الكنيسة. ولا شك أن جرائم خطابنا الديني –لا فرق بين خطاب ديني معارض وآخر سلطوي؛ فالسعي لفرض الهيمنة جزء جوهري في بنية كليهما- تتفاقم يوما بعد يوم، خاصة مع تحالف بعض قطاعات هذا الخطاب مع إرهاب أعمى البصر والبصيرة لا يفرق بين حاكم ومحكوم أو بين أعزل ومسلح ، ولا يميز بين رجل وامرأة ، ناهيك عن أن يميز بين طفل وراشد. من شأن هذا الخطر الماثل أن يهدد الإسلام كما هدد المسيحية ، وليست العبرة هنا بالفروق النظرية واللاهوتية بين الدينين ، فالتاريخ الاجتماعي للمسيحية حوَّلها من دين الموادعة والتسامح حتى مع الأعداء –ناهيك عن إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله- إلى دين توحدت فيه السلطتان فعانى الناس ما عانوا؛ فأُحْرِق العلماءُ وقُتِل المفكرون ، وكان من شأنهم ما هو معروف. وما يحدث الآن في مجتمعات الإسلام ليس أقل خطرا ولا أهدى سبيلا ، ولن يفيد في شئ التمسك بالفارق النظري واللاهوتي الذي لا يفتأ رجال الدين تصديع أدمغتنا به ليل نهار. إن الإسلام تجربة تاريخية علينا الاستفادة منها، لأنها تعلمنا الكثير.
إنها تُعَلمنا مثلا أن التمسك به كدين ومعتقد –دون العمل على تجديده من أجل أن يلبي طموحات هذه المجتمعات ويجيب على التحديات التي تواجهها- من شأنه أن يؤدى إلى مثل هذا الاختزال الذي نشكو منه الآن ، الاختزال المسئول عن هذا الاستفحال السرطاني لسلطة الخطاب الديني/السياسي أو السياسي/الديني الذي يسجن الفرد باسم دين الحرية في سلاسل من القهر والامتثال والإذعان تحت زعم “طاعة الله” الذي يمثله خليفة أو سلطان أو أمير أو جماعة تحتكر الإسلام ومغفرة الرب.
وبما أن قانون الحياة الطبيعية والاجتماعية هو التغير في كل شئ ، سواء كان ذلك التغير مُدْرَكا وملحوظا أو لم يكن ، فإن قانون الفكر هو “التجديد” ، ذلك هو قانونه من حيث هو فكر في ذاته. ويصبح “التجديد” مطلبا ملحا كلما سيطر “التقليد” ، الذي هو عين “الترديد” والتكرار لما سبق قوله ، وساد ، إذ في هذه الحالة ينفصل الفكر عن حركة الحياة التي تمضي في حركة تغيرها غير آبهة بعجز الفكر عن متابعتها فضلا عن قيادتها وترشيد اتجاه حركة التغيير فيها.
منهج التجديد يرتبط بالحاجة إلى التطوير في سياقها التاريخي الاجتماعي ، السياسي والفكري؛ فالتجديد في أي مجال لا ينبع من رغبة شخصية أو هوى ذاتي عند هذا المفكر أو ذاك ، إنه ليس تحليقا في سماوات معرفية ، أو بالأحرى عرفانية ، منبتة عن أرض الحياة وطينها ، وعن عرق الناس وكفاحهم في دروب الحياة الاجتماعية. قد يبدو المفكر محبا للعزلة حريصا على الهدوء والابتعاد عن صخب الحياة ، لكنها أوقات التأمل التي لو انْسَلَخَت تماما عن نسيج الحياة الحي وتيارها الجاري لصارت سجنا من الأوهام ، وقلعة للشياطين العابثة. من هنا يمكن القول إن “التجديد” ليس حالة فكرية طارئة ، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الأصول التي ينبع منه ويتجاوب معها بوسائله الخاصة. ما ليس تجديدا في مجال الفكر فهو “ترديد” وتكرار لما سبق قوله ، وليس هذا من الفكر في شئ ، ولا يمت إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو من بعيد.
نحن بحاجة إلى “تثوير” فكري، لا مجرد تجديد، وأقصد بالتثوير تحريك العقول بدءا من سن الطفولة؛ فقد سيطرت على أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا –سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم- حالة من “الركود” طال بها العهد حتى أوشكت أن تتحول إلى “موت”. هذا الظاهرة مشهودة في أفق الحياة العامة، ولا يغرنَّك مظاهر حيوية جزئية هنا أو هناك، في الفنون والآداب بصفة خاصة، فستجد أن بؤر الحيوية تلك مثل بقع الضوء التي تكشف المساحات الشاسعة للظلمة. فإذا وصلنا إلى مجال الفكر، فحدِّث عن اغتراب الفكر وغربة المفكرين، إلا من يحتمي بمظلة سلطة سياسية أو إثنية أو دينية تحوله إلى بوق ينطق بما يُنْفَخ فيه. هل تحتاج مجتمعاتنا إلى تنوير فقط؟ التنوير يفترض وجود فكر يحتاج لقدر من الاستنارة، ونحن للأسف مخاصمون للفكر. وما يسمى “فكرا ظلاميا” لا يمت لأفق الفكر و لا لمجاله بأي معنى من المعاني، إنما هو في أفضل أحواله ترديد لمقولات وعبارات، لا يعرف مرددوها أنفسهم أصل مولدها، ولا سياق منشئها وتطورها، فضلا عن غايتها ومغزاها.
سل أصحاب هذا الفكر وممثليه مثلا: هل يعلمون أن قضية “:قدم” القرآن” و “حدوثه” كانت من القضايا التي حسمتها السلطة السياسية، لا الحوار الفكري الحر، حين تدخلت مرة باسم العقلانية فاضطهدت القائلين بأن القرآن “قديم” لأنه “كلام الله الأزلي وصِفَةٌ من صفات ذاته الأزلية القديمة”، ثم تدخلت مرة أخرى، ولكن بحجة “درء الفتنة”، وناصرت أصحاب نظرية “القِدَم” واضطهدت القائلين بأن القرآن “مُحْدَثُ مخلوق” لأنه أصوات وكلام ولغة حادثة، لا يجوز أن تتصف الذات الإلهية بها؛ فكلام الله إذن صفة من صفات أفعاله لا من صفات الذات”؟ هل يعلمون أن ما يتصورونه من حقائق العقيدة المنزلة، فيكررون كالببغاوات أنه “معلوم من الدين بالضرورة”، ليس إلا قرار سلطة سياسية غاشمة، لا تقل في ديكتاتوريتها وعدائها للفكر عن السلطة التي سبقتها واضطهدت الفكر باسم العقلانية؟ وهل يعلمون أن موقف “الأشاعرة”، الموقف الوسطي الذي لا يكلّون أبدا من الادعاء بأنه صحيح الإسلام، قد ميَّز بين “صفة الكلام النفسي القديم” وبين محاكاته فيما نتلوه نحن من قرآن حادث؟
وهل يعلمون أن الأشاعرة اضطربوا اضطرابا عظيما في تحديد أين يقع “الإعجاز”، أهو واقع في “الكلام النفسي القديم”، وفي هذه الحالة: ما معني تحدي العرب أن يأتوا بمثله؟ وإن كان التحدي واقعا في المحاكاة الحادثة وليس في الكلام القديم، فالإعجاز أنساني وليس إلهيا. وهل يعلمون أن الذي استطاع أن يطرح للإعجاز تفسيرا يتجاوز ثنائية “الكلام النفسي القديم/والمحاكاة الحادثة” هو “عبد القاهر الجرجاني” صاحب نظرية “النظم” الذي أفاد من إنجازات المعتزلة كما أفاد من إنجازات اليونان؟ وهل يعلمون أنه اشترط “دراسة الشعر” من أجل اكتشاف قوانين الكلام البليغ التي لا يمكن فهم الإعجاز إلا بها؟ ثم أخير ألا يدركون أن “المنهج الأدبي” هذا الذي يطرحه عبد القاهر هو الأساس المعرفي للمنهج الأدبي الحديث والمعاصر في فهم القرآن وتفسيره، مضافا إليه إنجازات علوم اللغة والبلاغة والنقد الأدبي في العصر الحديث؟
إن حالة “مخاصمة” الفكر تلك، والتنكر له تنكرا تاما، هي المسئولة عن شيوع نهج “التكفير” في حياتنا. وتثوير الفكر الذي نحتاجه يتطلب السعي إلى تحريك العقول بالتحدي والدخول إلى المناطق المُحرَّمة، اللا مفكر فيه حسب تعريف “محمد أركون”، وفتح النقاش حول القضايا. وأهم من ذلك التخلص من ذلك الجدار العازل الذي طال وجوده في ثقافتنا بين “العامة” و “الخاصة”، فتلك الدعوات التي تتردد بين الحين والآخر عن حصر النقاش في بعض القضايا الدينية داخل دائرة “أهل العلم”، حتى لا تتشوش عقائد العامة أو يصيبها الفساد، دعوات في ظاهرها الرحمة والحق وفي باطنها السوء والباطل. كيف يمكن في عصر السماوات المفتوحة التي تنقل “العالم” إلى غُرف النوم، وفي عصر اكتساح ثورة المعلومات لكل الحدود، أن يطالب البعض بحماية “العامة” من خطر الفكر العلمي في أخطر القضايا التي تمس حياتهم. إنه للأسف منطق “الوصاية” يتذرع باسم “الحماية” لممارسة ديكتاتورية فكرية وعقلية لا تقل خطرا عن الديكتاتورية السياسية في مجتمعاتنا.
العقبات كثيرة، وقد أشرت إلى معظمها بالتفصيل في كتابتي. لكن رغم هذه العقبات فلن يلقى المشروع التجديدي الفشل الذي نتخوّف منه. وهناك مؤشرات كثيرة لقدرة بعض عناصر هذا المشروع على اختراق الخطاب التقليدي والتأثير فيه من داخله. انظر مثلا للنقاش الدائر حول مسائل “تعدد الزوجات” و “ملك اليمين”، بل وعن “الجزية” في مناطق مختلفة من العالم العربي، وستلاحظ أن مفهوم “التاريخية” -الذي لعنته محكمتا الاستئناف و النقض في القاهرة- صار شائعا في الخطاب التقليدي دفاعا عن تهمة “التخلف”، التي تلصقها بعض المؤسسات الإعلامية الأجنبية بالإسلام. صحيح أن المصطلح لا يستخدم بكامل دلالته المفهومية وشحنته المعرفية -وذلك بسبب النهج الدفاعي الاعتذاري- لكن مجرد استخدام الكلمة يعد قرينة على مدى قدرة التجديد على اختراق أسوار التقليد.
تعليق واحد على عن التكفير…حوار غير منشور مع نصر حامد أبو زيد
كنت سعيد الحظ بلقاء هذا المفكر العبقرى يا أحمد.. طالما أسرتنى مؤلفاته وآراؤه.. أشكر لك هذا المقال الذى أخذنا إليه وإلى تثويره الفكرى… لك كل التحية والود