ما الذي يحتاجه الواحد منا كي يكتب عن تاريخه ؟ .. ربما عليه أن يصدق أولا أن هذا التاريخ ليس عاديا مهما بدا له كذلك وأنه يختلف عن تواريخ الآخرين مهما امتلك من الأسباب والدلائل التي تثبت العكس .. يحتاج أن يصدق ـ حتى ولو في الأمر معجزة ـ أن الكتابة عن التاريخ الشخصي أو العائلي لا تحتاج إلى شخصيات شهيرة أو أحداث خارقة أو مآسي كبرى ولا حتى امتلاك أي نوع من البطولة أو التفوق أو الامتياز وفقا لأي معايير تقليدية بل تشترط أن تقرر الكتابة فحسب .. الإيمان بأن المصائر لا تتطابق مهما تشابهت وأن مجرد الوجود في الكون بأي شكل وداخل أي مسار هو بمثابة تجربة فريدة لا تتطلب مزايا إضافية كي تكون جديرة بالرصد والتتبع والاكتشاف .
” لون الماء ” ليس مجرد سيرة ذاتية للكاتب والمؤلف الموسيقي وعازف السكسفون ” جيمز ماكبرايد ” ، وأيضا ليس مجرد سيرة ذاتية لأمه ” روث ماكبرايد جوردان ” أو ” راحيل دبوراه شلسكي ” بحسب أصلها اليهودي .. هي وثيقة سردية عن ضرورة الاشتباك مع الماضي باعتباره فرصة متوفرة طوال الحياة لمساءلة العالم .. اقتفاء أثر غير محكوم وغير متوقع لخطوات القدر وما تنسجه طوال الوقت من هويات متعددة وملتبسة .. ربما لاحظ ” جيمز ماكبرايد ” أن أمه تختلف عن معظم الأمهات الأخريات وربما عثر فعلا على الأعاجيب بعدما أقنعها حينما بلغ سن الرشد بأن تحكي له قصة حياتها وعرف أنها ابنة حاخام يهودي هاجرت من بولندا إلى منطقة هارلم في نيويورك لتتزوج رجلا أسود وتعتنق الدين المسيحي وتقوم بتربية اثني عشر طفلا حتى تخرجوا جميعا من الجامعة .. لكن ” لون الماء ” يريد أن يخبر قارئه أكثر من أي شيء أن لكل لحظة مواهبها الثمينة وثراءها الخاص بكافة امتداداته الحميمية والملغزة وأن الذاكرة ليست مجرد وعاء جامد يختزن التفاصيل القديمة فحسب بل مرآة دائمة التشكل عليك أن تواصل تفحص ذاتك من خلالها لتختبر كل الجدل الممكن بين الأزمنة سواء التي عايشتها أوالتي لم تعايشها .
يمكن للماضي إذن أن يمتلك القدرة على تحويل هزائم الواقع إلى انتصارات جمالية عبر البحث والتنقيب عن الحكمة وعن التساؤلات وعن المعنى المختبيء وراء كل غموض .. ” جيمز ماكبرايد ” وهو يستعرض حياته مع أمه وإخواته كعائلة أمريكية عاشت في أواسط القرن العشرين حيث عصر القوة السوداء ومالكولم اكس ومارتن لوثر كينج وأجواء التوتر بين البيض والسود ومدى الصعوبات الهائلة التي واجهوها بالتقاطع مع سرد أمه لقصة حياتها يريد أن يذكرك بأنك ـ ككل الآخرين ـ تمتلك كنزا عليك رعايته جيدا : ذكريات الطفولة بكل ما تستوعبه من مشاهد وحكايات وملامح .. لديك دائما إمكانية أن تتوقف في لحظة ما كي تنظر إلى الوراء من أي نقطة تراقب منها الحاضر وأن تخوض مغامرات لا تنتهي للحصول على معرفة متجددة تساعدك على قراءة حياتك بشكل غير معتاد ومن ثم تثبيتها في العالم بالكلمات التي تصلك بالآخرين كأنك تنتزع نوعا ما من الخلود .
* * *
http://www.mamdouhrizk.blogspot.com
3 تعليقات على ” لون الماء ” : ضرورة تشريح الماضي
المقدمة هائلة الروعة يا ممدوح!
حقيقي رائعة!
بالإضافة إلى مقدمتك الهائلة، فإن روث ماكبرايد بالتحديد تحتاج سرد لماضيها، ليس فقط لكونها حالة فريدة لبيضاء يهودية تتزوج من أسود مسيحي في القرن العشرين وفي هارلِم، ولكن أيضًا لنتاج هذه الزيجة المتمثّل في اثنى عشر حكاية مختلفة، كما ذكرت، بينهم جيمز ماكبرايد.
رائع كعادتك! هل قرأت النسخة الأصلية؟
ألف شكر يا أحمد وأنا لم أقرأ النسخة الأصلية وإنما اعتبر نفسي محظوظا لقراءة الترجمة الرائعة التي قام بها فارس غلوب وصدرت عن سلسلة إبداعات عالمية في أغسطس 2000 .. أعتبر هذا العرض البسيط مجرد استجابة عابرة لرغبة قديمة في الكتابة عن هذا العمل الذي أحببته جدا وأعدت قراءته أكثر من مرة بعدما أصبح منذ اللحظة الأولى واحدا من أهم كتبي المفضلة ؛ هذا على أمل طبعا أن أكتب عنه الكتابة التي تليق به كما أراه .
تحياتي
أريد أن أطلّع على نسخته المترجمة.
خلاص… حطّتها على القائمة.
أشكرك